وَالْكِبَرِ وَالْحِوَلِ وَالشِّبَعِ وَالتَّأْوِيلُ دِينًا ذَا قِيَمٍ وَوَصَفَ الدِّينَ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فَقَوْلُهُ: مِلَّةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً وَحَنِيفًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَعْنَى هَدَانِي رَبِّي وَعَرَّفَنِي مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِالْحَنِيفِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا عرفه الذين الْمُسْتَقِيمَ عَرَّفَهُ كَيْفَ يَقُومُ بِهِ وَيُؤَدِّيهِ فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي/ وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا كَيْفَ كَانَتْ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَعَ تَمَامِ الْإِخْلَاصِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَقْرُونَةً بِالْإِخْلَاصِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُسُكِي فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ الذَّبِيحَةُ بِعَيْنِهَا يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَعَلَيْهِ نُسُكٌ أَيْ دَمٌ يُهَرِيقُهُ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الْكَوْثَرِ: ٢] وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ وَقِيلَ: لِلْمُتَعَبِّدِ نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا كَالسَّبِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الْخَبَثِ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالنُّسُكُ كُلُّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الذَّبْحُ وَقَوْلُهُ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لِلَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَأَثْبَتَ كَوْنَ الْكُلِّ لِلَّهِ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ لَيْسَا لِلَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ أَنَّهُمَا حَاصِلَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لِلَّهِ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِمَا وَاقِعَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ مَحْيايَ سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَنَصَبَهَا فِي مَمَاتِي وَإِسْكَانُ الْيَاءِ فِي مَحْيَايَ شَاذٌّ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لَا يَلْتَقِيَانِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صَلَاتَهُ وَسَائِرَ عِبَادَاتِهِ وَحَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على انه لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَقُولُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ أَيْ وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ.
ثُمَّ يَقُولُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أَيِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أولا لمسلمي زمانه.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي إِلَى قَوْلِهِ:
لَا شَرِيكَ لَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الاول: ان