للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ ضُعَفَاءَ، وَضُعَافَى، وَضَعَافَى: نَحْوُ سُكَارَى وَسَكَارَى.

قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ بِالْإِمَالَةِ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ إِمَالَةِ ضِعَافٍ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، وَكَانَ أَوَّلُهُ حَرْفًا مُسْتَعْلِيًا مَكْسُورًا نَحْوُ ضِعَافٍ، وَغِلَابٍ، وَخِبَابٍ، يَحْسُنُ فِيهِ الْإِمَالَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَصَعَّدَ بِالْحَرْفِ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ انْحَدَرَ بِالْكَسْرَةِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَصَعَّدَ بِالتَّفْخِيمِ بَعْدَ الْكَسْرِ حَتَّى يُوجَدَ الصَّوْتُ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْإِمَالَةُ فِي خافُوا فَهِيَ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا تَطْلُبُ الْكَسْرَةَ الَّتِي فِي خِفْتُ، ثُمَّ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً وَهُوَ كَالتَّقْرِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِذَا أَرَادُوا بَعْثَ غَيْرِهِمْ عَلَى فِعْلٍ وَعَمَلٍ، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ هُوَ الْعَدْلُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ.

قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ أَنْ لَا يُؤْذُوا الْيَتَامَى، وَيُكَلِّمُوهُمْ كَمَا يُكَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ بِالتَّرْحِيبِ وَإِذَا خَاطَبُوهُمْ قَالُوا يَا بُنَيَّ، يَا وَلَدِي، وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْجَالِسِينَ إِلَى الْمَرِيضِ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ لَا تُسْرِفْ فِي وَصِيَّتِكَ وَلَا تُجْحِفْ بِأَوْلَادِكَ، مِثْلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ وَالْقَوْلُ السَّدِيدُ مِنَ الْوَرَثَةِ حَالَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ لِلْحَاضِرِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، أَنْ يُلْطِفُوا الْقَوْلَ لَهُمْ وَيَخُصُّوهُمْ بالإكرام.

[[سورة النساء (٤) : آية ١٠]]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ الْوَعِيدَ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَقَدْ كَثُرَ الْوَعِيدُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء: ٢] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: ٩] ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ مُفْرَدَةً فِي وَعِيدِ مَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُمْ لِكَمَالِ ضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمُ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ مَزِيدَ الْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا أَشَدَّ دَلَالَةَ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ الْيَتَامَى لَمَّا بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى بَلَغَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ غَيْرَ ظُلْمٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُجْرَى ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَكَلَ الرَّجُلُ مَالَ الْيَتِيمِ ظُلْمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَسَامِعِهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَيْنَيْهِ، يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا» .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ تَوَسُّعٌ، وَالْمُرَادُ: إِنَّ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ جَارٍ مَجْرَى أَكْلِ النَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى:

٤٠] قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.