للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى الْهِدَايَةَ الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوطُ، فَصَحَّ قَوْلُهُ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مِثَالُهُ الْإِيمَانُ هُدًى وَالْإِخْلَاصُ فِي الْإِيمَانِ زِيَادَةُ هُدًى وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْإِخْلَاصِ إِلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ فَمَنِ اهْتَدَى بِالْإِيمَانِ زَادَهُ اللَّهُ الْهِدَايَةَ بِالْإِخْلَاصِ، هَذَا إِذَا أَجْرَيْنَا لَفْظَ الْهِدَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْهُدَى عَلَى الثَّوَابِ أَيْ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا ثَوَابًا عَلَى ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَزِيدُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلْيَمْدُدْ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ يَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا وَيَزِيدُ أَيْ يَزِيدُ فِي ضَلَالِ الضُّلَّالِ بِخِذْلَانِهِ بِذَلِكَ الْمَدِّ وَيَزِيدُ الْمُهْتَدِينَ هِدَايَةً بِتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُهْتَدُونَ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الْعَاقِبَةِ فَقَالَ: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمُهْتَدُونَ ضَرَرٌ قَلِيلٌ مُتَنَاهٍ يَعْقُبُهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الضَّالُّونَ نَفْعٌ قَلِيلٌ مُتَنَاهٍ يَعْقُبُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَسْقُطُ الشُّبْهَةُ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَيْهَا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِنَّهَا الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ سَمَّاهَا بَاقِيَةً لِأَنَّ نَفْعَهَا يَدُومُ وَلَا يَبْطُلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهَا بَعْضُ الْعِبَادَاتِ وَلَعَلَّهُمْ ذَكَرُوا مَا هُوَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَأَزَالَ الْوَرَقَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا كَمَا يَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: لَأُعَلِّمَنَّ ذَلِكَ وَلَأُكْثِرَنَّ مِنْهُ حَتَّى إِذَا رَآنِي جَاهِلٌ حَسِبَ أَنِّي مَجْنُونٌ» .

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مِنْ حَيْثُ يَدُومُ ثَوَابُهَا وَلَا يَنْقَطِعُ فَبَعْضُ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ ثَوَابًا مِنَ الْبَعْضِ فَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ فِي الدَّوَامِ فَهِيَ بِأَسْرِهَا بَاقِيَةٌ صَالِحَةٌ نَظَرًا إِلَى آثَارِهَا الَّتِي هِيَ الثَّوَابُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهَا: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا خَيْرٌ إِلَّا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَالْمُرَادُ إِذَنْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِمَّا ظَنَّهُ الْكُفَّارُ بِقَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: ٧٣] .

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ أَوَّلًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ ثُمَّ أَوْرَدَ شُبْهَةَ الْمُنْكِرِينَ، وَأَجَابَ عَنْهَا أَوْرَدَ عَنْهُمُ الْآنَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ طَعْنًا فِي الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ فَقَالَ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وُلْدًا وَهُوَ جَمْعُ وَلَدٍ كَأُسْدٍ فِي أَسَدٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَلَدِ كَالْعُرْبِ فِي الْعَرَبِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وِلْدًا بِالْكَسْرِ، وَعَنِ الْحَسَنِ نَزَلَتِ الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أَنَّهَا فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاقْتَضَيْتُهُ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا وَلَا حِينَ تُبْعَثُ فَقَالَ: فَإِنِّي إِذَا مِتُّ بُعِثْتُ؟ قلت: نعم. قال: إني بُعِثْتُ وَجِئْتَنِي فَسَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ، وَقِيلَ: صَاغَ خَبَّابٌ لَهُ حُلِيًّا فَاقْتَضَاهُ فَطَلَبَ الْأُجْرَةَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُبْعَثُونَ، وَأَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا فَأَنَا أَقْضِيكَ ثَمَّ، فَإِنِّي أُوتَى مَالًا وَوَلَدًا حِينَئِذٍ ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>