الزَّحِّ، وَالزَّحُّ هُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ كَانَ فِي النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ آفَاتِهَا وَشِدَّةِ بَلِيَّاتِهَا، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ» .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لِلْإِنْسَانِ وَرَاءَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، الْخَلَاصِ عَنِ الْعَذَابِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الثَّوَابِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فَقَدْ فَازَ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَالْغَايَةِ الَّتِي لَا مَطْلُوبَ بَعْدَهَا.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيُؤْتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» .
ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الْغُرُورُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: غَرَّرْتُ فُلَانًا غُرُورًا شَبَّهَ اللَّهُ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ وَيُغَرُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُدَلِّسُ الْغَرُورُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ بِهَا فَإِنَّهَا نِعْمَ الْمَتَاعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَسَادَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ مُرَادَاتِهِ لَكَانَ غَمُّهُ وَهَمُّهُ أَزْيَدَ مِنْ سُرُورِهِ، لِأَجْلِ قِصَرِ وَقْتِهِ وَقِلَّةِ الْوُثُوقِ بِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَمْ لَا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ وِجْدَانُهُ بِمُرَادَاتِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ كَانَ حصره في طلبها أكثر، ولكما كَانَ الْحِرْصُ أَكْثَرَ كَانَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحِرْصِ أَشَدَّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ إِذَا فَازَ بِمَقْصُودِهِ سَكَنَتْ نَفْسُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَزْدَادُ طَلَبُهُ وَحِرْصُهُ وَرَغْبَتُهُ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِقَدْرِ مَا يَجِدُ مِنَ الدُّنْيَا يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ السَّعَادَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَمَتَى عَرَفْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ/ عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَأَنَّهَا كَمَا
وَصَفَهَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: لِينُ مَسِّهَا قَاتِلُ سُمِّهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الدُّنْيَا ظَاهِرُهَا مَطِيَّةُ السُّرُورِ، وباطنها مطية الشرور.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥] زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَيُؤْذُونَهُمْ أَيْضًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ، مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ فَإِذَا أُنْزِلَ الْبَلَاءُ عَلَيْهِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ دَخَلَتْ مُؤَكِّدَةً وَضُمَّتِ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ، وَلَمْ تُكْسَرْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِأَنَّهَا وَاوُ جَمْعٍ فَحُرِّكَتْ بِمَا كَانَ يَجِبُ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الضَّمِّ، وَمِثْلُهُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٦] .