النَّارِ، وَأَنْ يُدْخِلَ الْمُذْنِبِينَ الْجَنَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْعُقُولِ، وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ هَذَا الِاسْتِبْعَادُ، وَأَكَّدَ الْقَفَّالُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُسَوَّى الْمُسِيءُ بِالْمُحْسِنِ، فَإِنَّ فِيهِ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي وَإِبَاحَةً لَهَا وَإِهْمَالًا للطاعات.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٣]]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
[في قوله تَعَالَى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَعْمَالِهِمْ قَدْ صَيَّرَتْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي ذَوَاتِهَا. فَكَانَ هَذَا الْمَجَازُ أَبْلَغَ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ النُّفُوسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، فَبَعْضُهَا ذَكِيَّةٌ وَبَعْضُهَا بَلِيدَةٌ، وَبَعْضُهَا مُشْرِقَةٌ نُورَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظُلْمَانِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ وَبَعْضُهَا نَذِلَةٌ، وَاخْتِلَافُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَ لِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بَلْ لِاخْتِلَافِ مَاهِيَّاتِ النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وَقَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ دَرَجَاتٌ، لَا أَنَّ لَهُمْ دَرَجَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُمْ عَائِدٌ إِلَى لَفْظِ «مَنْ» فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ [آل عمران: ١٦٢] وَلَفْظُ «مَنْ» يُفِيدُ الْجَمْعَ فِي الْمَعْنَى، فَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ عَائِدًا إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَوُونَ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَذِكْرُ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، فَهَذَا الضَّمِيرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلِ، أَوْ إِلَى الثَّانِي، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَالِاحْتِمَالَاتُ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أن يكون عائدا الى فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ سَوَاءٌ، لَا بَلْ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَنِ اتَّبَعَ الرِّضْوَانَ وَأَنَّهُ أَوْلَى، وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُ الدَّرَجَاتِ فِي أَهْلِ الثَّوَابِ، وَالدَّرَكَاتِ فِي أَهْلِ الْعِقَابِ. الثَّانِي:
أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَنَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ وَصْفًا لِمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عَادَةَ الْقُرْآنِ فِي الْأَكْثَرِ جَارِيَةٌ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْعِقَابِ لَا يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ، قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] فما أَضَافَ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ أَهْلِ الثَّوَابِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٢١] .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ عَائِدًا عَلَى كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَالْحُجَّةُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَقْرَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَرَاتِبِ الْعَذَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأحقاف: ١٩]
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِيهَا ضَحْضَاحًا وَغَمْرًا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ يُحْذَى لَهُ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ يُنَادِي يَا رَبِّ وَهَلْ أَحَدٌ يُعَذَّبُ عَذَابِي» .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: هُمْ عَائِدًا إِلَى الْكُلِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَرَجَاتِ أَهْلِ الثَّوَابِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَدَرَجَاتِ أَهْلِ الْعُقَابِ أَيْضًا مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ أَعْمَالِ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ