للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إِلَى غَايَةٍ بِكَلِمَةِ حَتَّى يَجِبُ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْغَايَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا.

فَإِنْ قَالُوا: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ هُوَ التَّبَيُّنَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ؟

قُلْنَا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، يَصِيرُ تَكْلِيفُهُ، أَنْ لَا يَحْكُمَ الْبَتَّةَ، وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَنْزِلَ الْوَحْيُ وَيَظْهَرَ النَّصُّ، فَلَمَّا تَرَكَ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ كَبِيرَةً، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ ذَلِكَ الْخَطَأُ خَطَأً وَاقِعًا فِي الِاجْتِهَادِ، فَدَخَلَ تَحْتَ

قَوْلِهِ: «وَمَنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ،

فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَجَلَةِ، وَوُجُوبِ التَّثَبُّتِ وَالتَّأَنِّي وَتَرْكِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّفَحُّصِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يُعَامِلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ التَّقْرِيبِ أَوِ الْإِبْعَادِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: عَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَقَالَ:

فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النُّورِ: ٦٢] .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: قَوْلُهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ لَيْسَ فِيهِ ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا؟ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فَأَذِنَ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَأْذَنَ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خُرُوجُهُمْ مَعَهُ صَوَابًا، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا عُيُونًا لِلْمُنَافِقِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يُثِيرُونَ الْفِتَنَ وَيَبْغُونَ الْغَوَائِلَ فَلِهَذَا السَّبَبِ، مَا كَانَ فِي خُرُوجِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ مَصْلَحَةٌ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لِلْمُتَخَلِّفِينَ وَالْمَدْحِ لِلْمُبَادِرِينَ، وَأَيْضًا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْقَاعِدِينَ وبيان حالهم.

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]

لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: هَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ تَبَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا، وَالْمُنَافِقُونَ يَتَوَقَّفُونَ وَيَتَبَلَّدُونَ وَيَأْتُونَ بِالْعِلَلِ وَالْأَعْذَارِ. وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ أَوِ الْمَاضِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ علامة النفاق في ذلك لوقت الِاسْتِئْذَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا فِيهِ مَحْذُوفٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>