للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَنَجُّسَ مَوْضِعٍ آخَرَ! السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ التَّيَمُّمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّيَمُّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَإِزَالَةِ الْوَضَاءَةِ وَالنَّظَافَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَاتِ أَصْلًا، السَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ عَنِ الرِّجْلَيْنِ، الثَّامِنُ: أَنَّ الَّذِي يُرَادُ زَوَالُهُ إِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْسَامِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بَعِيدٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّطْهِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَهَارَةَ الْقَلْبِ عَنْ صِفَةِ التَّمَرُّدِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ نَجَاسَةٌ لِلْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا كَانَتْ نَجَاسَةً لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُرَادُ نَفْيُهُ وَإِزَالَتُهُ وَتَبْعِيدُهُ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي كَذَلِكَ، فَكَانَتْ نَجَاسَاتٍ رُوحَانِيَّةً، وَكَمَا أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ تُسَمَّى طَهَارَةً فَكَذَلِكَ إِزَالَةُ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِلَةِ تُسَمَّى طَهَارَةً، وَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَجَعَلَ رَأْيَهُمْ نَجَاسَةً، وَقَالَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: ٣٣] فَجَعَلَ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي طَهَارَةً لَهُمْ. وَقَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: ٥٥] فَجَعَلَ خَلَاصَهُ عَنْ طَعْنِهِمْ وَعَنْ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ تَطْهِيرًا لَهُ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعَبْدَ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ طَاهِرَةً لَمْ يَعْرِفِ الْعَبْدُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ فَائِدَةً مَعْقُولَةً، فَلَمَّا انْقَادَ لِهَذَا التَّكْلِيفِ كَانَ ذَلِكَ الِانْقِيَادُ لِمَحْضِ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الِانْقِيَادُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ آثَارَ التَّمَرُّدِ فَكَانَ ذَلِكَ طَهَارَةً، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ طَهَارَةً، وَتَأَكَّدَ/ هَذَا بِالْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَّتْ خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي يديه ورأسه ورجائه.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ فَرْضِ الْوُضُوءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِتَتِمَّ النِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالنِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ بِالتَّرَخُّصِ فِي التَّيَمُّمِ وَالتَّخْفِيفِ فِي حَالِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَالْكَلَامُ فِي «لَعَلَّ» مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ٢١] واللَّه أعلم.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٧]]

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا التَّكْلِيفَ أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَبُولَ وَالِانْقِيَادَ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأول:

<<  <  ج: ص:  >  >>