للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَخَّرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الروم: ٢٢] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ لَوَازِمَ الْأَنْفُسِ عَلَى الْعَوَارِضِ الْمُفَارِقَةِ حَيْثُ ذَكَرَ أَوَّلًا اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ ثُمَّ الْمَنَامَ وَالِابْتِغَاءَ، وَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِ الْعَوَارِضَ الْمُفَارِقَةَ عَلَى اللَّوَازِمِ حَيْثُ قَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَغَيِّرُ الْحَالِ وَالْعَوَارِضُ لَهُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَأَمَّا اللَّوَازِمُ فيه فقريبة. وأما السموات وَالْأَرْضُ فَقَلِيلَةُ التَّغَيُّرِ فَالْعَوَارِضُ فِيهَا أَغْرَبُ مِنَ اللَّوَازِمِ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَعْجَبُ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ آيَةً وَنَزِيدُهُ بَيَانًا فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَلَهُ صَوْتٌ يُعْرَفُ بِهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَهُ لَوْنٌ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ آيَةٌ عَجِيبَةٌ، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ثَابِتَانِ لَا يَتَغَيَّرَانِ، ثُمَّ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَمْطَارٌ هَاطِلَةٌ وَبُرُوقٌ هَائِلَةٌ، وَالسَّمَاءُ كَمَا كَانَتْ وَالْأَرْضُ كَذَلِكَ، فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يُدِيمُ أَمْرًا مَعَ تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ وَيُزِيلُ أَمْرًا مَعَ ثَبَاتِ الْمَحَلِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا قَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ قَدَّمَ مَا هُوَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الْبَرْقُ وَالْمَطَرُ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ وَالْإِحْيَاءُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا أَنَّ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الشَّجَرِ مَنَافِعَ، كَذَلِكَ فِي تَقَدُّمِ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ عَلَى الْمَطَرِ مَنْفَعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرْقَ إِذَا لَاحَ، فَالَّذِي لَا يَكُونُ تَحْتَ كن يخاف الابتلال/ فيستعدله، وَالَّذِي لَهُ صِهْرِيجٌ أَوْ مَصْنَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ أَوْ زَرْعٌ يُسَوِّي مَجَارِيَ الْمَاءِ، وَأَيْضًا الْعَرَبُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا يَعْلَمُونَ الْبِلَادَ الْمُعْشِبَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوُا الْبُرُوقَ اللَّائِحَةَ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَوَائِدَ الْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمُقِيمِينَ بِالْبِلَادِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِلْبَادِينَ وَلِهَذَا جَعَلَ تَقْدِيمَ الْبَرْقِ عَلَى تَنْزِيلِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ نِعْمَةً، وَآيَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُ آيَةً فَظَاهِرٌ فَإِنَّ فِي السَّحَابِ لَيْسَ إِلَّا مَاءً وَهَوَاءً وَخُرُوجُ النَّارِ مِنْهَا بِحَيْثُ تَحْرِقُ الْجِبَالَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ اللَّهُ، قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ السَّحَابُ فِيهِ كَثَافَةٌ وَلَطَافَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ. فَالْهَوَاءُ أَلْطَفُ مِنْهُ وَالْمَاءُ أَكْثَفُ فَإِذَا هَبَّتْ رِيحٌ قَوِيَّةٌ تَخْرِقُ السَّحَابَ بِعُنْفٍ فَيَحْدُثُ صَوْتُ الرَّعْدِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ النَّارُ كَمِسَاسِ جِسْمٍ جِسْمًا بِعُنْفٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّارَ تَخْرُجُ مِنْ وُقُوعِ الْحَجَرِ عَلَى الْحَدِيدِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْحَجَرُ وَالْحَدِيدُ جِسْمَانِ صَلْبَانِ وَالسَّحَابُ وَالرِّيحُ جِسْمَانِ رَطْبَانِ، فَيَقُولُونَ لَكِنْ حَرَكَةُ يَدِ الْإِنْسَانِ ضَعِيفَةٌ وَحَرَكَةُ الرِّيحِ قَوِيَّةٌ تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ، فَنَقُولُ لَهُمُ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ أَمْرَانِ حَادِثَانِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ سَبَبٍ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْبُرْهَانِ كَوْنُ كُلِّ حَادِثٍ مِنَ اللَّهِ فَهُمَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُونَ فَهُبُوبُ تِلْكَ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الأمور الحادثة العجيبة لا بد مَنْ سَبَبٍ وَيَنْتَهِي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَهُوَ آيَةٌ لِلْعَاقِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ هَاهُنَا: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ أَمْرًا عَادِيًّا مُطَّرِدًا قَلِيلَ الِاخْتِلَافِ كَانَ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ بِالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ الْمُطَّرِدَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّبِيعَةِ مِنَ الْمُخْتَلِفِ، لَكِنَّ الْبَرْقَ وَالْمَطَرَ لَيْسَ أَمْرًا مُطَّرِدًا غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ إِذْ يَقَعُ بِبَلْدَةٍ دُونَ بَلْدَةٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَتَارَةً تَكُونُ قَوِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ ضَعِيفَةً فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ إن لم يتفكر تفكرا تاما.

ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٥]]

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)

[في قوله تَعَالَى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ] لَمَّا ذَكَرَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَعْضَهَا، ذَكَرَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَعْضَ وَهِيَ قِيَامُهَا، فإن الأرض

<<  <  ج: ص:  >  >>