الْأَطْرَافِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الْأَعْضَاءِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي كُلِّهَا فَقَالَ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، مِثْلُ الشَّفَتَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ رَضٍّ فِي لَحْمٍ، أَوْ كَسْرٍ فِي عَظْمٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي بَطْنٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ فَفِيهِ أَرْشٌ وَحُكُومَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ شَرْعًا فِي التَّوْرَاةِ، فَمَنْ قَالَ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا إِلَّا مَا نُسِخَ بِالتَّفْصِيلِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ فِي شَرْعِنَا، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِصاصٌ هاهنا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ وَالْجُرُوحُ مُتَقَاصَّةٌ بعضها ببعض ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعَافِي أَوْ إِلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَجْرُوحَ أَوْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ إِذَا عَفَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ، أَيْ لِلْعَافِي وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تعالى في آية القصاص الثالث: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: ٢٣٧] / وَيَقْرُبُ مِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلَى النَّاسِ»
وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ»
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنِ الْجَانِي صَارَ ذَلِكَ الْعَفْوُ كَفَّارَةً لِلْجَانِي، يَعْنِي لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْعَفْوِ، وَأَمَّا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الَّذِي عَفَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا:
فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤] وَثَانِيًا: هُمُ الظَّالِمُونَ وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَعْظَمَ التَّهْدِيدَاتِ أَوَّلًا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الْأَخَفِّ بَعْدَهُ؟
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنْكَارٌ لِنِعْمَةِ الْمَوْلَى وَجُحُودٌ لَهَا فَهُوَ كُفْرٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَقْتَضِي إِبْقَاءَ النَّفْسِ فِي الْعِقَابِ الدَّائِمِ الشَّدِيدِ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى النَّفْسِ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ اللَّه مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بالتقصير في حق نفسه.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٤٦]]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)
قَفَيْتُهُ: مِثْلُ عَقَبْتُهُ إِذَا أَتْبَعْتَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: عَقَّبْتُهُ بِفُلَانٍ وَقَفَّيْتُهُ بِهِ، فَتَعَدِّيهِ إِلَى الثَّانِي بِزِيَادَةِ الْبَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ؟
قُلْنَا: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ كَالسَّادِّ مَسَدَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا قَفَّى بِهِ عَلَى أَثَرِهِ فَقَدْ قَفَّى بِهِ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ فِي آثارِهِمْ لِلنَّبِيِّينَ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [المائدة: ٤٤] وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، / وَإِنَّمَا يَكُونُ