للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَنْ يُضْمِرَ خِلَافَهُ، وَأَنْ يُعَرِّضَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، فَإِنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُهَا فِي الظَّاهِرِ لَا فِي أَحْوَالِ الْقُلُوبِ.

الْحُكْمُ الثَّانِي لِلتَّقِيَّةِ: هُوَ أَنَّهُ لَوْ أَفْصَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَقَدْ تَجُوزُ أَيْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إِلَى الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَإِطْلَاعِ الْكُفَّارِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الْبَتَّةَ.

الْحُكْمُ الرَّابِعُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ أَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا تَحِلُّ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا شَاكَلَتِ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَلَى النَّفْسِ.

الْحُكْمُ الْخَامِسُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ، وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ،

لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ»

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»

وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ وَالْمَاءُ إِذَا بِيعَ بِالْغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ، وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْحُكْمُ السَّادِسُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا الْحُكْمُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ فَلَا، وَرَوَى عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقَابَ نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمَعْنَى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَنْ تَعْصُوهُ فَتَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ/ وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ النَّفْسِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ فَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ هُوَ عِقَابٌ يَصْدُرُ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّفْسَ زَالَ هَذَا الِاشْتِبَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِقَابَ الصَّادِرَ عَنْهُ يَكُونُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى دَفْعِهِ وَمَنْعِهِ مِمَّا أَرَادَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفْسَ هَاهُنَا تَعُودُ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ يَنْهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِ هَذَا الْفِعْلِ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُكُمْ عِقَابَهُ عِنْدَ مصيركم إلى الله.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٩]]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاسْتَثْنَى عَنْهُ التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْبَاطِنِ، فَلَا جَرَمَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْبَوَاطِنِ كَعِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ، فَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى كُلِّ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، وَفِي الآية سؤالات: