للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ نَعْلَمُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً، كَذَلِكَ يُرْهِبُ الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:

وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَكْثِيرَ أَسْبَابِ الْغَزْوِ كَمَا يُوجِبُ رَهْبَةَ الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ رَهْبَةَ الْمُنَافِقِينَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُنَافِقُونَ لَا يَخَافُونَ الْقِتَالَ فَكَيْفَ يُوجِبُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ الْإِرْهَابَ؟

قُلْنَا: هَذَا الْإِرْهَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ آلَاتِهِمْ وَأَدَوَاتِهِمُ انْقَطَعَ عَنْهُمْ طَمَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَيَصِيرُوا مُخْلِصِينَ فِي الْإِيمَانِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنَافِقَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَرَبَّصَ ظُهُورَ الْآفَاتِ وَيَحْتَالَ فِي إِلْقَاءِ الْإِفْسَادِ وَالتَّفْرِيقِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَاهَدَ كَوْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ خَافَهُمْ وَتَرَكَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَذْمُومَةَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذَا الْبَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: الْمُرَادُ كُفَّارُ الْجِنِّ.

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ فَقَالَ إِنَّهُمُ الْجِنُّ. ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَخْبِلُ أَحَدًا فِي دَارٍ فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ»

وَقَالَ الْحَسَنُ: صَهِيلُ الْفَرَسِ يُرْهِبُ الْجِنَّ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ تَكْثِيرَ آلَاتِ الْجِهَادِ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ فِي إِرْهَابِ الْجِنِّ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ كَمَا يُعَادِيهِ الْكَافِرُ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُعَادِيهِ الْمُسْلِمُ أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ قَوِيَّ/ الْحَالِ كَثِيرَ السِّلَاحِ، فَكَمَا يَخَافُهُ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكَذَلِكَ يَخَافُهُ كُلُّ مَنْ يُعَادِيهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجِهَادِ وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُوَفَّ لَكُمْ أَجْرُهُ، أَيْ لَا يَضِيعُ فِي الْآخِرَةِ أَجْرُهُ، وَيُعَجِّلُ اللَّه عِوَضَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ أَيْ لَا تُنْقَصُونَ مِنْ الثَّوَابِ، وَلَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا التَّفْسِيرَ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: ٣٣] .

[[سورة الأنفال (٨) : آية ٦١]]

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا يُرْهِبُ بِهِ الْعَدُوَّ مِنَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارِ، بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْإِرْهَابِ إِذَا جَنَحُوا أَيْ مَالُوا إِلَى الصُّلْحِ، فَالْحُكْمُ قَبُولُ الصُّلْحِ. قَالَ النَّضْرُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى فلان، وأجنح لَهُ إِذَا تَابَعَهُ وَخَضَعَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: إِنْ مَالُوا إِلَى الصُّلْحِ فَمِلْ إِلَيْهِ وَأَنَّثَ الْهَاءَ فِي لَهَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا قَصْدَ الْفَعْلَةِ وَالْجَنْحَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَرَادَ مِنْ بَعْدِ فَعْلَتِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّلْمُ تُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ نَقِيضِهَا وَهِيَ الْحَرْبُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لِلسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ قَتَادَةُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَةِ: ٥] وَقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التَّوْبَةِ: ٢٩] وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَكِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِالصُّلْحِ إِذَا كَانَ الصَّلَاحُ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى مُصَالَحَتَهُمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ سَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ لِلْمُشْرِكِينَ جَازَ مُهَادَنَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ هَادَنَ أَهْلَ مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ قَبْلَ كَمَالِ الْمُدَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>