للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَدْلِ وَبَيْنَ الْجَوْرِ. فَثَبَتَ أَنَّ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا، وَكَوْنُهُ آمِرًا يُنَاقِضُ كَوْنَ الْأَوَّلِ أَبْكَمَ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا يُنَاقِضُ وَصْفَ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَبِأَنَّهُ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ، وَكَوْنُهُ عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير.

ثم قال تعالى: وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَعْنَاهُ كَوْنُهُ عَادِلًا مُبَرَّأً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَاهِرٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَوَّلَ والثاني لا يستويان، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَثَلِ أَقْوَالٌ كَمَا فِي الْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ.

فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَمَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْأَبْكَمُ فَمَثَلُ الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَأَيْضًا كَلٌّ عَلَى عَابِدِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا إِلَى أَيِّ مُهِمٍّ تَوَجَّهَ الصَّنَمُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَبْكَمِ: هُوَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَمَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ، وَمَوْلَاهُ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَكَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ: كُلُّ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بَهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَكُلُّ حُرٍّ مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ وَصْفَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمَا بِكَوْنِهِمَا رَجُلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْوَثَنِ، وَكَذَلِكَ بالبكم وبالكل وبالتوجه فِي جِهَاتِ الْمَنَافِعِ وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْآخَرِ بِأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ صُورَةٍ بِصُورَةٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ لَا يتم إلا عند كون إحدى الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرَةً لِلْأُخْرَى.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبَانَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِشَخْصٍ معين، بل أيما حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ. والله أعلم.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)

[في قوله تعالى وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَثَلَ الْكُفَّارِ بِالْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ، وَمَثَلَ نَفْسِهِ بِالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُوُنَ آمِرًا بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إِلَّا إِذَا كان كاملا في العلم والقدرة، وذكر فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْعِلْمِ فَهُوَ قَوْلُهُ:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَعْنَى: عَلِمَ الله غيب السموات وَالْأَرْضِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا بَيَانُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ فَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>