يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ تَعَبٌ كَمَا يُقَالُ إِنَّ نَقْلَ الْخَفِيفِ أَهْوَنُ مِنْ نَقْلِ الثَّقِيلِ وَالْآخَرُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ تَعَبٍ فِي الْآخَرِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَهُ أَهْوَنَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مَرْيَمَ: ٢١] وَقَالَ هَاهُنَا: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ هُنَاكَ كَلِمَةَ عَلَيَّ وَأَخَّرَهَا هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ هُنَاكَ إِنَّهُ هَيِّنٌ هُوَ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنَ الْعَجُوزِ وَأَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ إِلَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يَعْنِي لَا عَلَى غَيْرِي، وَأَمَّا هَاهُنَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَهْوَنُ هُوَ الْإِعَادَةُ وَالْإِعَادَةُ عَلَى كُلِّ مُبْدِئٍ أَهْوَنُ فَقَالَ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، فَالتَّقْدِيمُ هُنَاكَ كَانَ لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُنَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ لَهُ مَعْنًى وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَهُ مَعْنًى أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا قَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَكَانَ ذَلِكَ مَثَلًا مَضْرُوبًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ فَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ وَلَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لَكُمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى مِنْ هَذَا الْمَثَلِ ومن كل مثل يضرب في السموات، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى أَيْ فِعْلَهُ وَإِنْ شَبَّهَهُ بِفِعْلِكُمْ وَمَثَّلَهُ بِهِ، لَكِنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقِيلَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ، شَامِلُ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَيَقْدِرُ على جمعها وتأليفها.
ثم قال تعالى:
[[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٨]]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨)
لَمَّا بَيَّنَ الْإِعَادَةَ وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلَيْنِ بَيَّنَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَيْضًا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَمْلُوكٌ لَا يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ مِثْلُ حُرْمَةِ سَيِّدِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَادُ اللَّهِ شُرَكَاءً لَهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَظَمَةٌ مِثْلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُعْبَدُوا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَثَلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مُشَابَهَةٌ مَا، ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمَثَلِ وَقَدْ يَكُونُ مُوهِنًا لَهُ وَهَاهُنَا وَجْهُ الْمُشَابَهَةِ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا وَهِيَ مُؤَكَّدَةٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَعَ حَقَارَتِهَا وَنُقْصَانِهَا وَعَجْزِهَا، وَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ مَعَ عِظَمِهَا وَكَمَالِهَا وقدرتها وثانيها: قوله: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي عَبْدُكُمْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِلْكُ اليد وهو طار [ىء] قَابِلٌ لِلنَّقْلِ وَالزَّوَالِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَالزَّوَالُ بِالْعِتْقِ وَمَمْلُوكُ اللَّهِ لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكَ يَمِينِكُمْ شَرِيكًا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِثْلَكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ هُوَ فِي الْحَالِ مِثْلُكُمْ فِي الْآدَمِيَّةِ حَتَّى أَنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ تَصَرُّفٌ فِي رُوحِهِ وَآدَمِيَّتِهِ بِقَتْلٍ وَقَطْعٍ وَلَيْسَ لَكُمْ مَنْعُهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ شَرِيكًا لَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ يَعْنِي الَّذِي لَكَمَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَكُمْ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رِزْقِهِ وَالَّذِي مِنَ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرِيكٌ فِي مَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الِاسْمِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute