للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تَفْهَمُ: فَشَبَّهُ الْأَصْنَامَ فِي أَنَّهَا لَا تَفْهَمُ بِهَذِهِ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ هاهنا الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَدْعُوُّ، وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الدَّاعِي، وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الْجَبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا صَدَى صَوْتِهِ فَإِذَا قَالَ: يَا زَيْدُ يَسْمَعُ مِنَ الصَّدَى: يَا زَيْدُ. فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ إِذَا دَعَوْا هَذِهِ الْأَوْثَانَ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا مَا تَلَفَّظُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ.

الطَّرِيقُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ وَهُوَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ عَقْلِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأَوْثَانِ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى ذَلِكَ الرَّاعِي بِقِلَّةِ العقل، فكذا هاهنا الثَّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ آبَاءَهُمْ وَتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا تَكَلَّمَ مَعَ الْبَهَائِمِ فَكَمَا أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْبَهَائِمِ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، فَكَذَا التَّقْلِيدُ عَبَثٌ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَبَّهَهُمْ بِالْبَهَائِمِ زَادَ فِي تَبْكِيتِهِمْ، فَقَالَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ فِي أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ وَبِمَنْزِلَةِ الْبُكْمِ فِي أَنْ لَا يَسْتَجِيبُوا لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعُمْيِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الدَّلَائِلِ فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوهَا، قَالَ النَّحْوِيُّونَ صُمٌّ أَيْ هُمْ صُمٌّ وَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الذَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَالْمُرَادُ الْعَقْلُ الِاكْتِسَابِيُّ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ قَالَ: الْعَقْلُ عَقْلَانِ مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ.

وَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا فَقَدُوا الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ وَلِهَذَا قيل: من فقد حسا فقد علما.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٢]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَبِيهَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَةِ: ١٦٨] ثُمَّ نَقُولُ:

إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هاهنا فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتَقْصَى فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنْ هُنَا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ، اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّيْفَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَكْلِ إِذَا انْفَرَدَ وَيَنْبَسِطُ فِي ذَلِكَ إِذَا سُوعِدَ، فَهَذَا الْأَكْلُ مَنْدُوبٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا إِذَا خَلَا عَنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْأَصْلُ فِي الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنِ الْعَوَارِضِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ مُسَمَّى الْأَكْلِ مُبَاحًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: كُلُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ بَلِ الْإِبَاحَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ فَإِنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الْحَلَالُ فَلَوْ كَانَ كُلُّ رِزْقٍ حَلَالًا لَكَانَ قَوْلُهُ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ مُحَلَّلَاتِ مَا أَحْلَلْنَا لَكُمْ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الطَّيِّبَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَلَذِّ الْمُسْتَطَابِ، وَلَعَلَّ أَقْوَامًا ظَنُّوا أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْ طَيِّبَاتِهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ، كُلُوا مِنْ لَذَائِذِ مَا أَحْلَلْنَاهُ لَكُمْ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى.