للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِالْجَفَاءِ وَلَا يَزْدَادُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنْ بَقِيَ الْحُبُّ عِنْدَ تَسْلِيطِ أَسْبَابِ الْبَلَاءِ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُبَّ كَانَ حَقِيقِيًّا، فَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ قَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِكُمُ الرَّسُولَ قَبْلَ أَنْ يَبْتَلِيَكُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ وَتَشْدِيدِ الْمِحْنَةِ والله أعلم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]]

وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ أَنْ يَلْزَمُوا أَصْلَ الْجَبَلِ، وَأَنْ لَا يَنْتَقِلُوا عَنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَقَفُوا وَحَمَلُوا عَلَى الْكُفَّارِ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلَ عَلِيٌّ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبَ لِوَائِهِمْ، وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ شَدَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ حَمَلَ الرَّسُولُ مَعَ أَصْحَابِهِ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْقَوْمِ لَمَّا أَنْ رَأَوُا انْهِزَامَ الْكُفَّارِ بَادَرَ قَوْمٌ مِنَ الرُّمَاةِ إِلَى الْغَنِيمَةِ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ مَيْمَنَةِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا رَأَى تَفَرُّقَ الرُّمَاةِ حَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمَهُمْ وَفَرَّقَ جمعهم وكثر القتل في المسملين، وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَمِيئَةَ الْحَارِثِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجَّ وَجْهَهُ، وَأَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَذَبَّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ صَاحِبُ الرَّايَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمِ أُحُدٍ حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ قَمِيئَةَ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قَدْ قَتَلْتُ مُحَمَّدًا، وصرخ صارح أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَكَانَ الصَّارِخُ الشَّيْطَانَ، فَفَشَا فِي النَّاسِ خَبَرُ قَتْلِهِ، فَهُنَالِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: لَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ، ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَإِلَى دِينِكُمْ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:

يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ وَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سَلَّ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَرَّ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَنْصَارِيٍّ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَشْعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: إِنْ/ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ، قَاتِلُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَلَمَّا شَجَّ ذَلِكَ الْكَافِرُ وَجْهَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ، احْتَمَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَدَافَعَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَفَرٌ آخَرُونَ مَعَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يُنَادِي وَيَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ حَتَّى انْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَامَهُمْ عَلَى هَزِيمَتِهِمْ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، أَتَانَا خَبَرُ قَتْلِكَ فَاسْتَوْلَى الرُّعْبُ عَلَى قُلُوبِنَا فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ،

وَمَعْنَى الْآيَةِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، وَكَمَا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ بَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ خُلُوِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ بَعْدَ خُلُوِّهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ، لَا وُجُودُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمِهِمْ أَبَدًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الرَّسُولُ جَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُرَادُ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَالْآخَرُ الرِّسَالَةُ، وَهَاهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْسَلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: ٢٥٢] وقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] وَفَعُولٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، كَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ لِمَا يُرْكَبُ وَيُحْلَبُ وَالرَّسُولُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ كَقَوْلِهِ:

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أَيْ بِرِسَالَةٍ، قَالَ: وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: ٤٧] وَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ