أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْهَلَاكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون سمي عقاب الضلال باسمه.
[[سورة الملك (٦٧) : آية ١٠]]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الثَّانِي مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابًا لِلْخَزَنَةِ حِينَ قَالُوا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: ٨] وَالْمَعْنَى لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْإِنْذَارَ سَمَاعَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْحَقِّ أَوْ نَعْقِلُهُ عَقْلَ مَنْ كَانَ مُتَأَمِّلًا مُتَفَكِّرًا لَمَا كُنَّا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالْإِضْلَالِ بِأَنْ قَالُوا لَفْظَةُ لَوْ تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعٌ وَلَا عَقْلٌ، لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَسْمَاعٍ وَعُقُولٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا صُمَّ الْأَسْمَاعِ وَلَا مَجَانِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ سَمْعُ الْهِدَايَةِ وَلَا عَقْلُ الْهِدَايَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: الدِّينُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدَّمَ السَّمْعَ عَلَى الْعَقْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ إِرْشَادِ الْمُرْشِدِ وَهِدَايَةِ الْهَادِي، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُسْتَجِيبِ وَتَأَمُّلُهُ فِيمَا يُلْقِيهِ الْمُعَلِّمُ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ السَّمْعَ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِذَا لَقِيَ الرَّسُولَ فَأَوَّلُ الْمَرَاتِبِ أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ السَّمْعُ مُقَدَّمًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى التَّعَقُّلِ وَالتَّفَهُّمِ لَا جَرَمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كُنَّا عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، ثُمَّ قَالَ كَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ظُهُورِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَكَأَنَّ سَائِرَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْمُجْتَهِدِينَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ وَعِيدَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ فَضَّلَ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِلسَّمْعِ مَدْخَلًا فِي الْخَلَاصِ عَنِ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَالْبَصَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السمع أفضل.
[[سورة الملك (٦٧) : آية ١١]]
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِتَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: ٩] وَقَوْلُهُ: بِذَنْبِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّ الذَّنْبَ هاهنا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ عَطَاءُ النَّاسِ، أَيْ عَطِيَّاتِهِمْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَاحِدِ الْمُضَافِ الشَّائِعَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [النحل: ٣٤] .
ثُمَّ قَالَ: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَبُعْدًا لَهُمُ اعْتَرَفُوا أَوْ جَحَدُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَالسُّحْقُ الْبُعْدُ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْعُنُقِ وَالطُّنُبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: سُحْقًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مُبَاعَدَةً، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَانَ الْقِيَاسُ سِحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ كَقَوْلِهِمْ: عَمْرَكَ الله. / وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أتبعه بوعد المؤمنين فقال: