للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة هود (١١) : آية ٢٣]]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ وَخُسْرَانَهُمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِخْبَاتُ هُوَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْأَرْضُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَخَبَتَ ذِكْرُهُ أَيْ خَفِيَ، / فَقَوْلُهُ: «أَخْبَتَ» أَيْ دَخَلَ فِي الْخَبْتِ، كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ صَارَ إِلَى نَجْدٍ أَنْجَدَ وَإِلَى تِهَامَةَ أَتْهَمَ، وَمِنْهُ الْمُخْبِتُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي أَخْبَتَ إِلَى رَبِّهِ أَيِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَلَفْظُ الْإِخْبَاتِ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ، فَإِذَا قُلْنَا: أَخْبَتَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا فَمَعْنَاهُ اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِذَا قُلْنَا أَخْبَتَ لَهُ فَمَعْنَاهُ خَشَعَ لَهُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَوْلُهُ وَأَخْبَتُوا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَعَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ ثُمَّ إِنْ فَسَرَّنَا الْإِخْبَاتَ بِالطُّمَأْنِينَةِ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّه وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مُطْمَئِنَّةً بِذِكْرِ اللَّه فَارِغَةً عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى أَوْ يُقَالُ إِنَّمَا قُلُوبُهُمْ صَارَتْ مُطْمَئِنَّةً إِلَى صِدْقِ اللَّه بِكُلِّ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْإِخْبَاتَ بِالْخُشُوعِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَتَوْا بِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الخلود في الجنة.

[[سورة هود (١١) : آية ٢٤]]

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ ذَكَرَ فِيهِمَا مِثَالًا مُطَابِقًا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ذُكِرَ آخِرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هُودٍ: ١٧] ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ بَعْدِهِ الْكَافِرِينَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَلَا يُبْصِرُونَ، وَالسَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّشْبِيهِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَسَدِ وَمِنَ النَّفْسِ، وَكَمَا أَنَّ لِلْجَسَدِ بَصَرًا وَسَمْعًا فَكَذَلِكَ حَصَلَ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَكَمَا أَنَّ الْجَسَدَ إِذَا كَانَ أَعْمَى أَصَمَّ بَقِيَ مُتَحَيِّرًا لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، بَلْ يَكُونُ كَالتَّائِهِ فِي حَضِيضِ الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا، فَكَذَلِكَ الْجَاهِلُ الضَّالُّ الْمُضِلُّ، يَكُونُ أَعْمَى وَأَصَمَّ الْقَلْبِ، فَيَبْقَى فِي ظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ حَائِرًا تَائِهًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ عِلَاجُ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ، وَإِذَا كَانَ/ الْعِلَاجُ مُمْكِنًا مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ حُصُولِ هَذَا الْعَمَى وَهَذَا الصَّمَمِ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الْعِلَاجِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ تعالى إذا ورد عَلَى الْكَافِرِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ أَتْبَعَهَا بِالْقَصَصِ، لِيَصِيرَ ذِكْرُهَا مُؤَكِّدًا لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَصَصِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>