للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ يُوسُفَ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَطِيبِ الْعَيْشِ وَفَرَاغِ الْبَالِ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُقُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَطِيفٌ فَإِذَا أَرَادَ حُصُولَ شَيْءٍ سَهَّلَ أَسْبَابَهُ فَحَصَلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْحُصُولِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أَعْنِي أَنَّ كَوْنَهُ لَطِيفًا فِي أَفْعَالِهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَيَكُونُ عَالِمًا بِالْوَجْهِ الَّذِي يُسَهِّلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الصَّعْبِ وَحَكِيمٌ أَيْ مُحْكِمٌ فِي فِعْلِهِ، حَاكِمٌ فِي قَضَائِهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ مُبَرَّأٌ عن العبث والباطل واللَّه أعلم.

[[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ بِيَدِ يَعْقُوبَ وَطَافَ بِهِ فِي خَزَائِنِهِ فَأَدْخَلَهُ خَزَائِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَخَزَائِنَ الْحُلِيِّ وَخَزَائِنَ الثِّيَابِ وَخَزَائِنَ السِّلَاحِ، فَلَمَّا أَدْخَلَهُ مَخَازِنَ الْقَرَاطِيسِ قَالَ يَا بُنَيَّ مَا أَغْفَلَكَ، عِنْدَكَ هَذِهِ الْقَرَاطِيسُ وَمَا كَتَبْتَ إِلَيَّ عَلَى ثَمَانِ مَرَاحِلَ قَالَ: نَهَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ قَالَ سَلْهُ عَنِ السَّبَبِ قَالَ: أَنْتَ أَبْسَطُ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَرَنِي اللَّه بِذَلِكَ لِقَوْلِكَ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ فَهَلَّا خِفْتَنِي

وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمَّا قَرُبَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ بِالشَّامِ إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ إِسْحَاقَ فَمَضَى بِنَفْسِهِ وَدَفَنَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ وَعَاشَ بَعْدَ أَبِيهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَنَّى مُلْكَ الْآخِرَةِ فَتَمَنَّى الْمَوْتَ.

وَقِيلَ: مَا تَمَنَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَتَوَفَّاهُ اللَّه طَيِّبًا طَاهِرًا، فَتَخَاصَمَ أَهْلُ مِصْرَ فِي دَفْنِهِ كُلُّ أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال قرءوا أَنَّ الْأَصْلَحَ أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ صُنْدُوقًا مِنْ مَرْمَرٍ وَيَجْعَلُوهُ فِيهِ وَيَدْفِنُوهُ فِي النِّيلِ بِمَكَانٍ يَمُرُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَصِلُ إِلَى مِصْرَ لِتَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَوُلِدَ لَهُ إِفْرَائِيمُ وَمِيشَا، وَوُلِدَ لِإِفْرَائِيمَ نُونٌ وَلِنُونٍ يُوشَعُ فَتَى مُوسَى، ثُمَّ دُفِنَ يُوسُفُ هُنَاكَ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه مُوسَى/ فَأَخْرَجَ عِظَامَهُ مِنْ مِصْرَ وَدَفَنَهَا عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: من في قوله: مِنَ الْمُلْكِ، ومِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا بَعْضُ مُلْكِ الدُّنْيَا أَوْ بَعْضُ مُلْكِ مِصْرَ وَبَعْضُ التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّمَا قَالَ مِنَ الْمُلْكِ، لِأَنَّهُ كَانَ ذُو مُلْكٍ فَوْقَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْمَوْجُودَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْمُؤَثِّرُ الَّذِي لَا يَتَأَثَّرُ وَهُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَالْمُتَأَثِّرُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ عَالَمُ الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّشْكِيلِ وَالتَّصْوِيرِ وَالصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَعْرَاضِ الْمُتَضَادَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ مُتَبَاعِدَانِ جِدًّا وَيَتَوَسَّطُهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ وَيَتَأَثَّرُ، وَهُوَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ، فَخَاصِّيَّةُ جَوْهَرِ الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا تَقْبَلُ الْأَثَرَ وَالتَّصَرُّفَ عَنْ عَالَمِ نُورِ جَلَالِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ تَصَرَّفَتْ فِيهِ وَأَثَّرَتْ فِيهِ، فَتَعَلَّقَ الرُّوحُ بِعَالَمِ الْأَجْسَامِ بِالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ، وَتَعَلُّقُهُ بِعَالَمِ الْإِلَهِيَّاتِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِ النَّفْسِ بِعَالَمِ الْأَجْسَامِ وَقَوْلُهُ:

وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِهَا بِحَضْرَةِ جَلَالِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِدَرَجَاتِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، امْتُنِعَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُمَا لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مِقْدَارٌ مُتَنَاهٍ، فَكَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>