للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَاصِلُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْمُلْكِ، وَبَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْعِلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ فِيهِ كَلِمَةَ «مِنْ» لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى التَّبْعِيضِ، ثُمَّ قَالَ: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْفَاطِرِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَعْنَى الْفَاطِرِ حَتَّى احْتَكَمَ إِلَيَّ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا وَأَنَا ابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَصْلُ الْفَطْرِ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ يُقَالُ: فَطَرَ ناب البعير إذ بَدَا وَفَطَرْتُ الشَّيْءَ فَانْفَطَرَ، أَيْ شَقَقْتُهُ فَانْشَقَّ، وتفطر الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرُ بِالْوَرَقِ إِذَا تَصَدَّعَتْ، هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ صَارَ عِبَارَةً عَنِ الْإِيجَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ حَالَ عَدَمِهِ كَأَنَّهُ فِي ظُلْمَةٍ وَخَفَاءٍ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ صَارَ كَأَنَّهُ انْشَقَّ عَنِ الْعَدَمِ وَخَرَجَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْهُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ عَنِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ بِدَلِيلِ الِاشْتِقَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: ١] ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا مِنَ الدُّخَانِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فُصِّلَتْ:

١١] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ أَحْدَثَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرُّومِ: ٣٠] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ النَّاسَ مِنَ التُّرَابِ. قَالَ تَعَالَى: / مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: ٥٥] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَكُونُ حَاصِلًا عِنْدَ حُصُولِ مَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ مِثْلُ الْكُوزِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مَوْجُودًا إِذَا صَارَتِ الْمَادَّةُ الْمَخْصُوصَةُ مَوْصُوفَةً بِالصِّفَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الصُّورَةِ مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مَوْجُودًا، وَبِإِيجَادِ تِلْكَ الصُّورَةِ صَارَ مُوجِدًا لِذَلِكَ الْكُوزِ فَعَلِمْنَا أَنَّ كَوْنَهُ مُوجِدًا لِلْكَوْنِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُوجِدًا لِمَادَّةِ الْكُوزِ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْفَاطِرِ لَا يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِلْأَجْزَاءِ التي منها تركبت السموات والأرض، وإنما صار إلينا كونه تعالى مُوجِدًا لَهَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لَا بِحَسَبِ لَفْظِ الْقُرْآنِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يوهم أن تخليق السموات مُقَدَّمٌ عَلَى تَخْلِيقِ الْأَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْوَاوُ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، ثُمَّ الْعَقْلُ يُؤَكِّدُهُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمُحِيطِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمَرْكَزِ وَتَعَيُّنُهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمُحِيطِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ مُحِيطَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، أَمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُحِيطِ الْوَاحِدِ إِلَّا مَرْكَزٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. وَأَيْضًا اللَّفْظُ يُفِيدُ أَنَّ السَّمَاءَ كَثِيرَةٌ وَالْأَرْضَ وَاحِدَةٌ، وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِيهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] .

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: نَصْبُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: رَبِّ وَهُوَ نِدَاءٌ مُضَافٌ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى نِدَاءٍ ثَانٍ.

ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعْنَى: أَنْتَ الَّذِي تَتَوَلَّى إِصْلَاحَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَوَصَلَ الْمُلْكَ الْفَانِيَ بِالْمُلْكِ الْبَاقِي، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ لَكَانَ الْمُتَوَلِّي لِمَصَالِحِهِ هُوَ هُوَ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عموم قوله: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.

ثُمَّ قَالَ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ

النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَى عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»

فَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنْ أَرَادَ الدُّعَاءَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>