تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَالْآيَةُ الثانية على الوضع اللغوي.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: ٨٥] أَكَّدَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ بِأَنْ بَيَّنَ وَعِيدَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الثَّانِي: نُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ كَفَرُوا/ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا وَالثَّالِثُ: نَزَلَتْ فِي الْحَرْثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ ندم على ردته فأرسل إلى قوله أَنِ اسْأَلُوا لِي هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ بِالْآيَةِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَابَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبِلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبَتَهُ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: ٨٥] وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران: ٨٦- ٩٠] نَزَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران: ٩٠] ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ أُصُولَنَا تَشْهَدُ بِأَنَّهُ تَعَالَى هَدَى جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى الدِّينِ بِمَعْنَى التَّعْرِيفِ، وَوَضْعِ الدَّلَائِلِ وَفِعْلِ الْأَلْطَافِ، إِذْ لَوْ يَعُمُّ الْكُلَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَصَارَ الْكَافِرُ وَالضَّالُّ مَعْذُورًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَهْدِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى نَصْبِ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْعُ الْأَلْطَافِ الَّتِي يُؤْتِيهَا الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابًا لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مَرْيَمَ: ٧٦] وَقَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧] وَقَالَ: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [الْمَائِدَةِ: ١٦] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ قَدْ يَزِيدُهُ اللَّهُ هُدًى الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: ١٦٨،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute