وَالسُّدِّيُّ: احْكُمْ وَاقْضِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ عَمَّانَ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ الْفَاتِحَ وَالْفَتَّاحَ لِأَنَّهُ يَفْتَحُ مَوَاضِعَ الْحَقِّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي قَوْلَهُ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنٍ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تَعَالَ أُفَاتِحْكَ أَيْ أُحَاكِمْكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أَيْ أَظْهِرْ أَمْرَنَا حَتَّى يَنْفَتِحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَيَنْكَشِفَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ، وَعَلَى كَوْنِ شُعَيْبٍ وقومه محقين، وعلى هذا الوجه فالفتح يُرَادُ بِهِ الْكَشْفُ وَالتَّبْيِينُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَنَّهُ/ هُوَ الذي يخلق الايمان من الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَشْرَفُ الْمُحْدَثَاتِ، وَلَوْ فسرنا لفتح بِالْكَشْفِ وَالتَّبْيِينِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِلْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدَ، لَكَانَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ هُوَ الْعَبْدَ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَيْرَ الْفَاتِحِينَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى قوله فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ عِظَمَ ضَلَالَتِهِمْ بِتَكْذِيبِ شُعَيْبٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَضَلُّوا غَيْرَهُمْ، وَلَامُوهُمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ فَقَالُوا: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَاسِرُونَ فِي الدِّينِ وَقَالَ آخَرُونَ: خَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَعِنْدَ هَذَا الْمَقَالِ كَمُلَ حَالَهُمْ فِي الضَّلَالِ أَوَّلًا وَفِي الْإِضْلَالِ ثَانِيًا، فَاسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ الْمُهْلِكَةُ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا الْجَزَاءُ الشَّدِيدُ الْمُخَوِّفُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ الظَّلَمَةِ، كَانَ الْهَلَاكُ أَعْظَمَ، لِأَنَّهُ أَحَاطَ بِهِمُ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أَيْ فِي مَسَاكِنِهِمْ جاثِمِينَ أَيْ خَامِدِينَ سَاكِنِينَ بِلَا حَيَاةٍ وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَالُ غَنِيَ الْقَوْمُ فِي دَارِهِمْ إِذَا طَالَ مَقَامُهُمْ فِيهَا. وَالثَّانِي: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَ بِهَا أَهْلُوهَا وَاحِدُهَا مَغْنًى. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ
أَرَادَ أَقَامُوا فِيهَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا بِهَا وَلَمْ يَنْزِلُوا فِيهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فيها، كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا مُسْتَغْنِينَ، يُقَالُ غَنِيَ الرَّجُلُ يَغْنَى إِذَا اسْتَغْنَى، وَهُوَ مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute