التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِلَّا وَجَبَ انْتِهَاءُ كُلِّ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ سَابِقٍ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ لَا بِتَحْصِيلِهِ بَلْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَأَيْضًا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ مَرْدُودًا، وَرَوَى الْقَاضِي عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، ثم قال الْقَاضِي: إِنَّ الْقَسْوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُعَانِدَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي: إِنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ وَنَبْوَةً عَظِيمَةً عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ كُلَّمَا رَآهُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، وَرُبَّمَا ارْتَعَدَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ لِقَوْلِهِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ؟
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ فَنَقُولُ هَذَا مُغَالَطَةٌ مَحْضَةٌ، لِأَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالنَبْوَةِ الْعَظِيمَةِ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ يُمْكِنُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا حَقٌّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ عَنِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَافْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَوَاعِي سَابِقَةٍ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ فِي الْقُلُوبِ وَذَلِكَ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قوله تَعَالَى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: وَقَدْ/ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ بِأَنْ يَسْلُكَ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ اللفظ.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَنْعَامِ: ٧] وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا نُزُولَ مَلَائِكَةٍ يُصَرِّحُونَ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَذَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ أَنَّا نَرَاهُمْ فَنَحْنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا نَرَاهُمْ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَنْزَلَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الْجَمَاعَةِ العظيمة أن يصيروا شاكرين فِي وُجُودِ مَا يُشَاهِدُونَهُ بِالْعَيْنِ السَّلِيمَةِ فِي النَّهَارِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ جَازَ حُصُولُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ كَانَتِ السَّفْسَطَةُ لَازِمَةً، وَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ اعْتِمَادٌ عَلَى الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute