فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ،
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصْنَعُ الْعِجْلَ فَقَالَ:
مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَ فَلَمَّا مَضَى هَارُونُ قَالَ السَّامِرِيُّ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ فَخَارَ
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِلنَّبِيِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ إِنْ كَانُوا فِي الْجَهَالَةِ بِحَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ فَهُمْ مَجَانِينُ وَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُنُونِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ قَالُوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، وَجَوَابُهُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ أَوْ حُلُولَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْخُوَارِ لَا يُنَاسِبُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلَكِنْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْجَلَافَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَنَسِيَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ نَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَا يَكُونُ لِلْإِلَهِ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّامِرِيِّ وَصَفَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ مُوسَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِلَهُ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
فَنَسِيَ وَقْتَ الْمَوْعِدِ فِي الرُّجُوعِ أَمَّا قَوْلُهُ: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا بِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يُعَوِّلُ إِلَّا عَلَى دَلَائِلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بقي هاهنا بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يَرْجِعُ بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا [الْمَائِدَةِ: ٧١] بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَكُونُ وَقُرِئَ بالنصب أيضا على أَنْ هَذِهِ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: ١٤٨] وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَمِّ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٩٥] وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعِجْلَ لَوْ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ لَكَانَ إِلَهًا لَأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ فَفَوَاتُ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقْتَضِي فَوَاتَ الْمَشْرُوطِ، وَلَكِنَّ/ حُصُولَ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَشْرُوطِ. الثَّالِثُ:
قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ؟ فَقَالَ:
إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ وَمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَأَنْتُمْ مَا جَفَّتْ أَقْدَامُكُمْ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمُ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة؟
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)