للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَغَى عَلَى الْخَالِقِ بِأَنْ كَفَرَ بِهِ، وَطَغَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ، وَكَمَا أَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا صِدْقَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ، فَكَذَا كَمَالُ الطُّغْيَانِ لَيْسَ إِلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ لقنه كلامين ليخاطبه بهما: فالأول: قوله تعالى:

[[سورة النازعات (٧٩) : آية ١٨]]

فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ هَلْ لَكَ فِي كَذَا، وَهَلْ لَكَ إِلَى كَذَا، كَمَا تَقُولُ: هَلْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَهَلْ تَرْغَبُ إِلَيْهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ فِي اللَّفْظِ مُرَادٌ فِي المعنى، والتقدير: هل لك إلى تَزَكَّى حَاجَةٌ أَوْ إِرْبَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا، قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الْكَهْفِ: ٧٤] وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: ٩] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَصِيرُ بِهِ زَاكِيًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِجَمْعِ كَلِّ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ قِرَاءَتَانِ: التَّشْدِيدُ عَلَى إِدْغَامِ تَاءِ التَّفَعُّلِ فِي الزَّايِ لِتَقَارُبِهِمَا وَالتَّخْفِيفُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي إِبْطَالِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، أَيْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تعالى لا نقلب الْكَلَامُ عَلَى مُوسَى، وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِهِ تَقَدَّمَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ لَهُمَا ذَلِكَ الْكَلَامَ اللَّيِّنَ الرَّقِيقَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُخَاشِنُونَ النَّاسَ وَيُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ، كَأَنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ما أمر الله به أنبياءه ورسله. ثم قال تعالى:

[[سورة النازعات (٧٩) : آية ١٩]]

وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْهَادِي تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَلَمَّا أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ مُوسَى خَتَمَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>