للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: ١٩] لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِ الظَّالِمِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْحُجَّةُ. أَمَّا الْفُسَّاقُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُمْ بِنَفْيِ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَوَارِدَةٌ بِثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ خاصة وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا فِي أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، قَالُوا: لَوْ خَرَجَ مِنَ النَّارِ لَكَانَ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهَا نَاصِرًا لَهُ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُ الْبَتَّةَ.

وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

النَّوْعُ الثالث: من دعواتهم.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٣]]

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُنَادِي قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [الأحزاب: ٤٦] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يُوسُفَ: ١٠٨] وَالثَّانِي: أَنَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ، قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُؤْمِنِي الْإِنْسِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ قَوْلَهُ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنِّ: ١، ٢] قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَكُلُّ أَحَدٍ سَمِعَهُ وَفَهِمَهُ، قَالُوا:

وَهَذَا/ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الرُّشْدِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَصَلَ بِهِ إِلَى الْهُدَى إِذَا وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، فَصَارَ كَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُنَادِي بِمَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ، كَمَا قِيلَ فِي جَهَنَّمَ: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [الْمَعَارِجِ: ١٧] إِذْ كَانَ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا، وَالْفُصَحَاءُ وَالشُّعَرَاءُ يَصِفُونَ الدَّهْرَ بِأَنَّهُ يُنَادِي وَيَعِظُ، وَمُرَادُهُمْ مِنْهَا دَلَالَةُ تَصَارِيفِ الزَّمَانِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا وَاضِعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ ... خَاطَبَكَ الدَّهْرُ فَلَمْ تَسْمَعْ

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: يُنادِي لِلْإِيمانِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى «إِلَى» كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: ٨] ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [الْمُجَادَلَةِ: ٣] بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: ٥] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: ٤٣] وَيُقَالُ: دَعَاهُ لِكَذَا وَإِلَى كَذَا، وَنَدَبَهُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَنَادَاهُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَهَدَاهُ لِلطَّرِيقِ وَإِلَيْهِ، وَالسَّبَبُ فِي إِقَامَةِ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَقَامَ الْأُخْرَى: أَنَّ مَعْنَى انْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ حَاصِلَانِ جَمِيعًا. الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي بِأَنْ آمِنُوا، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنَا مُنَادِي الْأَمِيرِ يُنَادِي بِكَذَا وَكَذَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الْأَجَلِ وَالْمَعْنَى: سَمِعْنَا مُنَادِيًا كَانَ نِدَاؤُهُ لِيُؤْمِنَ النَّاسُ، أَيْ كَانَ الْمُنَادِي يُنَادِي لِهَذَا الْغَرَضِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أَيْ لِتُؤْمِنَ النَّاسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ٦٤] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي نَظِيرُهُ قَوْلُكَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ كَذَا، وَسَمِعْتُ زَيْدًا يَتَكَلَّمُ، فَيُوقَعُ الْفِعْلُ عَلَى الرَّجُلِ وَيُحْذَفُ الْمَسْمُوعُ، لِأَنَّكَ وَصَفْتَهُ بِمَا يَسْمَعُ وَجَعَلْتَهُ حَالًا عَنْهُ فَأَغْنَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ،