وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُخَالِفًا لِفِعْلِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، مُشْتَغِلًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه، فَكَانَ الْعَمَلُ مُخَالِفًا لِطَرِيقَتِهِمْ، فَاعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ.
قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلًا عَلَى الصَّفَا يَدْعُو فَخِذًا فَخِذًا مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ، / وَكَانَ يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللَّه وَعِقَابَهُ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ، وَاظَبَ عَلَى الصِّيَاحِ طُولَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَا لِلْإِنْذَارِ لَا لِمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْجُهَّالُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَغْشَاهُ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فيتغير وجه وَيَصْفَرُّ لَوْنُهُ، وَتَعْرِضُ لَهُ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْغَشْيِ، فَالْجُهَّالُ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ جُنُونٌ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُنُونِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه، وَيُقِيمُ الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ وَالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةَ، بِأَلْفَاظٍ فَصِيحَةٍ بَلَغَتْ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، طَيِّبَ الْعِشْرَةِ، مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ نَقِيَّ السِّيرَةِ، مُوَاظِبًا عَلَى أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ صَارَ بِسَبَبِهَا قُدْوَةً لِلْعُقَلَاءِ الْعَالِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْجُنُونِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَرْسَلَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِتَرْهِيبِ الْكَافِرِينَ، وَتَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ مُفَرَّعًا عَلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، لَا جَرَمَ ذُكِرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التوحيد.
[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٥]]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
فَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واعلم أن دلائل ملكوت السموات وَالْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْقَدِيمِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى التَّوْحِيدِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ. بَلْ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَهِيَ بُرْهَانٌ بَاهِرٌ، وَدَلِيلٌ قَاهِرٌ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلِنُقَرِّرْ هَذَا الْمَعْنَى بِمِثَالٍ. فَنَقُولُ: إِنَّ الضَّوْءَ إِذَا وَقَعَ عَلَى كُوَّةِ الْبَيْتِ ظهر الذرات والهباآت، فَلْنَفْرِضِ الْكَلَامَ فِي ذَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ فَنَقُولُ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ مِنْ جِهَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِحَيِّزٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْيَازِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الْخَلَاءِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكُلُّ حَيِّزٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْيَازِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، فَرَضْنَا وُقُوعَ تِلْكَ الذَّرَّةِ فِيهِ كَانَ اخْتِصَاصُهَا بِذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْجَائِزَاتِ، وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَمُرَجِّحٍ وَذَلِكَ الْمُخَصَّصُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ السُّؤَالُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ/ الذَّرَّةُ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَإِنَّ حُدُوثَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ حُصُولِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، فَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ قَدِيمٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخَصِّصُ جِسْمًا عَادَ السُّؤَالُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَيْضًا إِنَّ تِلْكَ الذَّرَّةَ مُسَاوِيَةٌ لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي التَّحَيُّزِ وَالْحَجْمِيَّةِ. وَمُخَالِفَةٌ لَهَا فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ. وَاخْتِصَاصُهَا بِكُلِّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا خَالَفَتْ سَائِرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute