للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيُقَالُ لَهُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَإِذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ صَارَ كَالْقَرِيبِ الْحَاضِرِ، فَلَا جَرَمَ يُخَاطَبُ بِخِطَابِ الْحَاضِرِينَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْخِطَابِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَافِرَ بَعِيدٌ غَائِبٌ والمؤمن قريب حاضر. واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٣]]

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

[المسألة الأولى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وحده] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَمَّا كَوْنُهُ خالقا للسموات والأرض، فقد شرحنا فِي قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٦] مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: ٣٩] وَفِيهِ قَوْلَانِ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ مَالِكٌ لِكُلِّ الكائنات وتصرف للمالك فِي مُلْكِهِ حَسَنٌ وَصَوَابٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ حَسَنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ مُطَابِقٌ لِمَنَافِعِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الْمُكَلَّفَ أَوَّلًا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات وَالْأَرْضِ، وَلِحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ يُقَالُ: أَوْدَعَ فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ قُوًى وَخَوَاصَّ يَصْدُرُ بِسَبَبِهَا عَنْهَا آثَارٌ وَحَرَكَاتٌ مُطَابَقَةٌ لِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنَافِعِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ الذي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَخَلَقَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلدُّنْيَا وَلِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْخَالِقِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَلِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ كُنْ فَيَكُونُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نقول قوله: الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى الخبر، والتقدير قوله: الْحَقُّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كَقَوْلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْقِتَالُ، وَمَعْنَاهُ الْقِتَالُ وَاقِعٌ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ قَوْلِهِ حَقًّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، لِأَنَّ أَقْضِيَتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَلِكَ فِي يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إِلَّا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الْحَقِّ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا وَلَا مُعَارِضَ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُ اللَّه حَقٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقُدْرَتُهُ كَامِلَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْيَوْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>