للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هاهنا ذَكَرَ غَمَّ الْأَشْقِيَاءِ وَحُزْنَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْغُلِّ وَالْقَيْدِ وَطَعَامِ الْغِسْلِينِ، فَأَوَّلُهَا أَنْ تَقُولَ: خَزَنَةُ جَهَنَّمَ خُذُوهُ فَيَبْتَدِرُ إِلَيْهِ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ، وَتُجْمَعُ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: فَغُلُّوهُ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلَيْتُهُ النَّارَ إِذَا أَوْرَدْتُهُ إِيَّاهَا وَصَلَّيْتُهُ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَكَرَّمْتُهُ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ معناه لا تصلوه إلى الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وَهِيَ حِلَقٌ مُنْتَظِمَةٌ كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا فِي حَلْقَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنِّظَامِ فَهُوَ مُسَلْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: ذَرْعُها مَعْنَى الذَّرْعِ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ مِنَ الْيَدِ، يُقَالُ: ذَرَعَ الثَّوْبَ يَذْرَعُهُ ذَرْعًا إِذَا قَدَّرَهُ بِذِرَاعِهِ، وَقَوْلُهُ: سَبْعُونَ ذِراعاً فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ التَّقْدِيرَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ بَلِ الْوَصْفُ بِالطُّولِ، كَمَا قَالَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: ٨٠] يُرِيدُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ثُمَّ قَالُوا: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا وَكُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هُوَ، وَقَوْلُهُ: فَاسْلُكُوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ سَلَكَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَفِي الْقَيْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأَسْلَكْتُهُ مَعْنَاهُ أَدْخَلْتُهُ وَلُغَةُ الْقُرْآنِ سَلَكْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] وَقَالَ:

سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠٠] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْخُلُ السِّلْسِلَةُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ حَلْقِهِ، ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَمَا يُسْلَكُ الْخَيْطُ فِي اللُّؤْلُؤِ ثُمَّ يُجْعَلُ في عنقه سائرها، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَطْوِيلِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ سُوَيْدُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ مِنَ النَّاسِ مقيدين بالسلسلة الْوَاحِدَةِ كَانَ الْعَذَابُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَشَدَّ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: سَلْكُ السِّلْسِلَةِ فِيهِمْ مَعْقُولٌ، أَمَّا سَلْكُهُمْ فِي السِّلْسِلَةِ فَمَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: سَلْكُهُ فِي السِّلْسِلَةِ أَنْ تُلْوَى عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى تَلْتَفَّ عَلَيْهِ أَجْزَاؤُهَا وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهَا مُزْهَقٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَرَكَةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى ثُمَّ اسْلُكُوا فِيهِ السِّلْسِلَةَ كَمَا يُقَالُ: أَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَأَدْخَلْتُهَا فِي رَأْسِي، وَيُقَالُ:

الْخَاتَمُ لَا يَدْخُلُ فِي إِصْبَعِي، وَالْإِصْبَعُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْخَاتَمِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي سِلْسِلَةٍ ... فَاسْلُكُوهُ وَلَمْ يَقُلْ: فَاسْلُكُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ؟ الْجَوَابُ: الْمَعْنَى فِي تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلَى السَّلْكِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَقْدِيمِ الْجَحِيمِ عَلَى التَّصْلِيَةِ، أَيْ لَا تَسْلُكُوهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ لِأَنَّهَا أَفْظَعُ مِنْ سَائِرِ السَّلَاسِلِ السُّؤَالُ الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَغْلَالَ وَالتَّصْلِيَةَ بِالْفَاءِ وَذَكَرَ السَّلْكَ فِي هَذِهِ السَّلِسَةِ بِلَفْظِ ثُمَّ، فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ ثُمَّ تَرَاخِيَ المدة بل التفاوت في مراتب العذاب.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذَا الْعَذَابَ الشديد ذكر سببه فقال:

[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]

إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)

فَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى فساد حال القوة العملية، وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا يَحُضُّ عَلَى بَذْلِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ هاهنا اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ كَمَا وُضِعَ الْعَطَاءُ مَقَامَ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ:

وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرتاعا

<<  <  ج: ص:  >  >>