للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ عِوَضًا، وَإِنْ وُجِدَ فَلَا يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّكَ فَعَلْتَ كَذَا بَلْ يَقُولُ هَذَا لَكَ مِنِّي. وَأَمَّا مَا فَعَلْتَ مِنَ الْحَسَنَةِ فَجَزَاؤُهُ بَعْدُ عِنْدِي وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا يَكُونُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْعَبْدِ قَلِيلٌ، فَلَوْ قَالَ أَرْسَلْتُ الرِّيَاحَ بِسَبَبِ فِعْلِكُمْ لَا يَكُونُ بِشَارَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا إِذَا قَالَ مِنْ رَحْمَتِهِ كَانَ غَايَةَ الْبِشَارَةِ، وَمَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُوهِمًا لِنُقْصَانِ ثَوَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَإِذَا قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ يُنْبِئُ عَنْ نُقْصَانِ عِقَابِهِمْ وَهُوَ كَذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالَ هَاهُنَا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَالُوا وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَوْفِيقَهُمْ لِلشُّكْرِ مِنَ النِّعَمِ فَعَطَفَ عَلَى النِّعَمِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا أَخَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا قُلْنَا إِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ آيَتَيْنِ فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وَالْحَادِثُ فِي الْجَوِّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ نَارٌ وَرِيحٌ فَذَكَرَ الرِّيَاحَ هَاهُنَا تَذْكِيرًا وَتَقْرِيرًا لِلدَّلَائِلِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ فِيهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ الْمَطَرِ وَلَيْسَ فِي الْبَرْقِ فَائِدَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ ذُكِرَ هُنَاكَ خَوْفًا وَطَمَعًا، أَيْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَذَكَرَ هَاهُنَا مُبَشِّراتٍ/ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الْهَوَاءِ أَوْ تَصْفِيَتَهُ بِالرِّيحِ أَمْرٌ لازم، وحكمه به حكم جازم. ثم قال تعالى:

[[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٧]]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)

لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ بِبَرَاهِينَ ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا

أَيْ إِرْسَالُهُمْ دَلِيلُ رِسَالَتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغْلٌ غَيْرَ شُغْلِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مَا ظَهَرَ عَلَيْكَ وَمِنْ كَذِبِهِمْ أَصَابَهُمُ الْبَوَارُ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ كَانَ لَهُمْ الِانْتِصَارُ وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ يُبَيِّنُ تَعَلُّقَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ الْبَرَاهِينَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْكُفَّارُ سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَكَ كَانَ كَذَلِكَ وَجَاءُوا أَيْضًا بِالْبَيِّنَاتِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِمْ كَافِرٌ وَمُؤْمِنٌ كَمَا فِي قَوْمِكَ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الْكَافِرِينَ ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: كانَ حَقًّا

وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَانْتَقَمْنَا، وَكَانَ الِانْتِقَامُ حَقًّا وَاسْتَأْنَفَ وَقَالَ عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيْ عَلَيْنَا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْوَجْهُ الثاني: كانَ حَقًّا عَلَيْنا

أَيْ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا وَعَلَى الْأَوَّلِ لَطِيفَةٌ وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَانْتَقَمْنَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا وَإِنَّمَا كَانَ عَدْلًا حَقًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِ بَقَائِهِمْ غَيْرَ مُفِيدٍ إِلَّا زِيَادَةَ الْإِثْمِ وَوِلَادَةَ الْكَافِرِ الْفَاجِرِ وَكَانَ عَدَمُهُمْ خَيْرًا مِنْ وُجُودِهِمُ الْخَبِيثِ، وَعَلَى الثَّانِي تَأْكِيدُ الْبِشَارَةِ. لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ يُقَالُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا يُنْبِئُ عَنِ اللُّزُومِ، فَإِذَا قَالَ حَقًّا أَكَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْغَلَبَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا وَخِيمَةً، فَإِنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِذَا انْهَزَمَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ عَادَتْ آخِرًا لَا يَكُونُ النَّصْرُ إِلَّا لِلْمُنْهَزِمِ، وَكَذَلِكَ مُوسَى وَقَوْمُهُ لَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ لَمْ يَكُنِ انْهِزَامُهُمْ إِلَّا نُصْرَةً، فَالْكَافِرُ إِنْ هَزَمَ الْمُسْلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. ثم قال تعالى:

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>