المنظور إليهم، وفي تخصيص أُولُوا الطَّوْلِ بِالذِّكْرِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الذَّمَّ لَهُمْ أُلْزِمَ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى السَّفَرِ وَالْجِهَادِ، والثاني: أنه تعالى ذكر أولوا الطَّوْلِ لِأَنَّ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى السَّفَرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَذَكَرْنَا الْكَلَامَ الْمُسْتَقْصَى فِي الْخَالِفِ فِي قوله:
فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وهاهنا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَوالِفِ عِبَارَةٌ عَنِ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَخَلَّفْنَ فِي الْبَيْتِ فَلَا يَبْرَحْنَ، وَالْمَعْنَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْخَوَالِفُ جَمْعَ خَالِفَةٍ فِي حَالٍ. وَالْخَالِفَةُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ نَجِيبٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَأْتِ فَاعِلٌ صِيغَةُ جَمْعِهِ فَوَاعِلُ، إِلَّا حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لأن أَدَلُّ عَلَى الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَشْبِيهَهُمْ بِالْخَوَالِفِ.
ثُمَّ قَالَ: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عِبَارَةٌ عِنْدَنَا عَنْ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْكُفْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُصُولِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي لَمَّا كَانَ مُحَالًا، فَعِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الرَّاسِخَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْكُفْرِ، صَارَ الْقَلْبُ كَالْمَطْبُوعِ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ حُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَبْدِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الطَّبْعُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقَلْبِ فِي الْمَيْلِ فِي الْكُفْرِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي كَأَنَّهُ مَاتَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَلَامَةٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَقَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ أَسْرَارَ حِكْمَةِ اللَّهِ في الأمر بالجهاد.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي الْفِرَارِ عَنِ الْجِهَادِ بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الرَّسُولِ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، حَيْثُ بَذَلُوا الْمَالَ وَالنَّفْسَ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: لكِنِ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ:
أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الغزو، فقد توجه إليه مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَخْلَصُ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً [الْأَنْعَامِ: ٨٩] وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فُصِّلَتْ: ٣٨] وَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْجِهَادِ ذَكَرَ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْخَيْرَاتِ، يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّارَيْنِ، لِأَجْلِ/ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ. وَقِيلَ: الْخَيْراتُ الْحُورُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرَّحْمَنِ: ٧٠] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْخَيْراتُ الْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابُ. وَقَوْلُهُ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخَلُّصُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجَنَّاتُ كَالتَّفْسِيرِ لِلْخَيْرَاتِ وَلِلْفَلَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُحْمَلَ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ وَالْفَلَاحُ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا، مِثْلِ الْغَزْوِ، وَالْكَرَامَةِ، وَالثَّرْوَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْغَلَبَةِ، وَتُحْمَلُ الجنات على ثواب الآخرة والْفَوْزُ