المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ مِنْ جِهَاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ اللَّه ذَلِكَ فِيهِمْ سَوَاءٌ أَرْسَلَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا وَثَانِيَتُهَا: أَنَّهُ إِذَا خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ وجب سواء أرسل الرسول أم لا ثالثتها: إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ وَجَبَ أَرْسَلَ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ خَلْقًا للَّه تَعَالَى؟ فَيُقَالُ لِلْقَاضِي هَبْ أَنَّكَ نَازَعْتَ فِي الْخَلْقِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنَّكَ وَافَقْتَ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا عَلِمَ الْكُفْرَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْكُفْرُ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْكُفْرِ وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنْ وَجَبَ لَزِمَكَ مَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا حَسَنًا إِلَّا أَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ النَّقْضُ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَرْضَى الْعَاقِلُ بِأَنْ يُعَوِّلَ عليه؟
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٨ الى ٥٥]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ قَالُوا هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ «١» ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى فَهَؤُلَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِأُخْرَى، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لَهُمْ سِوَى الزَّيْغِ وَالْعِنَادِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أَيْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الْمُصَدِّقُ بِالْكِتَابِ الْمُعْجِزِ مَعَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ قالوا لولا أتي مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَمِنْ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَانْفِجَارِ الْحَجَرِ بِالْمَاءِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَمِنْ أَنَّ اللَّه كَلَّمَهُ وَكَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ وَغَيْرِهَا من الآيات فجاؤا بِالِاقْتِرَاحَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ كَمَا قَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: ١٢] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَلَا فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ إِذِ الصَّلَاحُ قَدْ يَكُونُ في إنزاله مجموعا كالتوراة ومفرقا
(١) يشير إلى الآية [٤٧] السابقة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute