الْبَرِّ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مُؤَكِّدَاتِ التَّكْرِيمِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ هَذِهِ الدَّوَابَّ لَهُ حَتَّى يَرْكَبَهَا وَيَحْمِلَ عَلَيْهَا وَيَغْزُوَ وَيُقَاتِلَ وَيَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ تَسْخِيرُ اللَّهِ تَعَالَى الْمِيَاهَ وَالسُّفُنَ وَغَيْرَهَا لِيَرْكَبَهَا وَيَنْقِلَ عَلَيْهَا وَيَتَكَسَّبَ بِهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ ابْنُ آدَمَ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَالرَّئِيسِ الْمَتْبُوعِ وَالْمَلِكِ الْمُطَاعِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ رَعِيَّتُهُ وَتَبَعٌ لَهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْمَدَائِحِ قَوْلُهُ: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَغْذِيَةَ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ إِنَّمَا يَتَغَذَّى الْإِنْسَانُ مِنْهُ بِأَلْطَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَشْرَفِ أَقْسَامِهَا بَعْدَ التَّنْقِيَةِ التَّامَّةِ وَالطَّبْخِ الْكَامِلِ وَالنُّضْجِ الْبَالِغِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْإِنْسَانِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: وَفَضَّلْناهُمْ/ وَلَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا التَّكْرِيمِ وَالتَّفْضِيلِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِأُمُورٍ خَلْقِيَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ ذَاتِيَّةٍ مِثْلَ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ وَالْخَطِّ وَالصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَالْقَامَةِ الْمَدِيدَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَرَضَهُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ لِاكْتِسَابِ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّكْرِيمُ وَالثَّانِي هُوَ التَّفْضِيلُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْكُلِّ بَلْ قَالَ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُفَضَّلًا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْقِسْمَ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلِ الْمَلَكُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَحْثَيْنِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ أَمِ الْمَلَائِكَةُ؟ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] .
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ عَوَامَّ الْمَلَائِكَةِ وَعَوَامَّ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا إِنَّكَ أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَتَنَعَّمُونَ وَلَمْ تُعْطِنَا ذَلِكَ فَأَعْطِنَا ذَاكَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» : وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَقَدْ عَوَّلُوا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لِأَنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَخْصِيصَ الْكَثِيرِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي الْقَلِيلِ بِالضِّدِّ، وَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)