للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِي طَاعَتِهِ وَطَلَبِ رِضْوَانِهِ،

رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: هُوَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا يُقَاتِلُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً» .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْمُرَادُ مِنْهُ: قَاتِلُوا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ إِمَّا عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْمُقَاتَلَةِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا الْوَجْهُ مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: قَاتِلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ وَأَهْلِيَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَثَالِثُهَا: قَاتَلُوا كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَأَهْلِيَّةٌ كَذَلِكَ سِوَى مَنْ جَنَحَ لِلسَّلْمِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الْأَنْفَالِ: ٦١] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فَاعِلِينَ لِلْقِتَالِ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ وَالْمُتَأَهِّلُ لَهُ قَبْلَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُقَاتِلًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ قِتَالَ الْمُقَاتِلِينَ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ثُمَّ بَعْدَهُ: وَلَا تَعْتَدُوا هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا تُقَاتِلُوا مَنْ لَا يُقَاتِلُكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَانِعَةٌ مِنْ قِتَالِ غَيْرِ الْمُقَاتِلِينَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] فَاقْتَضَى هَذَا حُصُولَ الْأَوَّلِ فِي قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، لَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَا صَارَ مَنْسُوخًا.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا فَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ سِوَى مَا ذكرتم، منها أن يكون المعنى: ولا تبدؤا فِي الْحَرَمِ بِقِتَالٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَعْتَدُوا بِقِتَالِ مَنْ نُهِيتُمْ عَنْ قِتَالِهِ مِنَ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ بِالْحِيلَةِ أَوْ بِالْمُفَاجَأَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ دَعْوَةٍ، أَوْ بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً.

فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ، وَلَكِنْ مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَذِنَ فِي قِتَالِهِمْ سَوَاءً قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.

قُلْنَا: لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ، فَكَانَ الصَّلَاحُ اسْتِعْمَالَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْمُجَامَلَةِ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ الْجَمْعُ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرْكِ، بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَتَكَرُّرِهَا/ عَلَيْهِمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَخْلِيقِهِ لَمَا صَحَّ هَذَا الكلام، وجوابه قد تقدم والله أعلم.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩١ الى ١٩٢]

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)