للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي يَدِهِ أَيْ وَقَعَ فِي يَدِهِ السَّقِيطُ، وَالسَّقِيطُ يَذُوبُ بِأَدْنَى حَرَارَةٍ وَلَا يَبْقَى فَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ السَّقِيطُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ فَصَارَ هَذَا مَثَلًا لِكُلِّ مَنْ خَسِرَ فِي عَاقِبَتِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ سَعْيِهِ عَلَى طَائِلٍ وَكَانَتِ النَّدَامَةُ آخِرَ أَمْرِهِ.

وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّادِمُ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ سُقِطَ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّرُ فِي أَمْرِهِ وَيَعْجَزُ عَنْ أَعْمَالِهِ وَالْآلَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الْأَعْمَالِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ هِيَ الْيَدُ. وَالْعَاجِزُ فِي حُكْمِ السَّاقِطِ فَلَمَّا قُرِنَ السُّقُوطُ بِالْأَيْدِي عُلِمَ أَنَّ السُّقُوطَ فِي الْيَدِ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ التَّامِّ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ لَا يَهْتَدِي لِمَا يَصْنَعُ، ضَلَّتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ.

وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّادِمِ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ وَيَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَتَارَةً يَضَعَهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَشَطْرٍ مِنْ وجه عَلَى هَيْئَةٍ لَوْ نُزِعَتْ يَدُهُ لَسَقَطَ عَلَى وجه فكانت اليد مسقوط فِيهَا لِتَمَكُّنِ السُّقُوطِ فِيهَا وَيَكُونُ قَوْلُهُ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ بِمَعْنَى سُقِطَ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَقَوْلِهِ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: ٧١] أَيْ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أَيْ قَدْ تَبَيَّنُوا ضَلَالَهَمْ تَبْيِينًا كَأَنَّهُمْ أَبْصَرُوهُ بِعُيُونِهِمْ قَالَ الْقَاضِي:

يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَخَّرُ مُقَدَّمًا لِأَنَّ النَّدَمَ وَالتَّحَيُّرَ إِنَّمَا يقطعان بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ. / وَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ عَظِيمِ الْحَسْرَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ شَاكًّا فِي أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ؟ فَقَدْ يَنْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَاسِدًا أَوْ بَاطِلًا غَيْرُ جَائِزٍ فَعِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَحْصُلُ النَّدَمُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَكَامَلُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً وَفَاسِدًا وَبَاطِلًا فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْتِزَامِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِنْدَ ظُهُورِ هَذَا النَّدَمِ وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي عَمِلُوهُ كَانَ بَاطِلًا أَظْهَرُوا الِانْقِطَاعَ إِلَى اللَّهِ تعالى ف قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ

وَهَذَا كَلَامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِعَظِيمِ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَرَغِبَ إِلَى رَبِّهِ فِي إِقَالَةِ عَثْرَتِهِ ثُمَّ صَدَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ، وَهَذَا النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ رُجُوعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ، وَقُرِئَ (لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا) بِالتَّاءِ وَرَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ وَهَذَا كَلَامُ التَّائِبِينَ كَمَا قَالَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ خَبَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِهِمْ صَارَ

<<  <  ج: ص:  >  >>