الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُمْ فِي الْكُفْرِ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ وَجَبَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ الْوَالِدَيْنِ لَتَرَكَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْقَادُ لِمَا وَصَّاهُ بِهِ فَلَا يُحْسِنُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَاتِّبَاعُ الْعَبْدِ أَبَوَيْهِ/ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَمَا يُفْضِي وُجُودُهُ إِلَى عَدَمِهِ بَاطِلٌ فَالِاتِّبَاعُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الشِّرْكِ بَقِيَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ فَيَأْتِي بِهِ فَتَرْكُ هَذَا الْإِحْسَانِ صُورَةً يُفْضِي إِلَى الْإِحْسَانِ حَقِيقَةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ بِالْوِلَادَةِ وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ الْمُعْتَادَةِ فَهُمَا سَبَبٌ مَجَازًا، وَاللَّهُ تَعَالَى سَبَبٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْإِرَادَةِ، وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالْإِعَادَةِ لِلسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ حَالَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما فَقَوْلُهُ:
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَعْنِي التَّقْلِيدَ فِي الْإِيمَانِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَضْلًا عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الْكُفْرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَلَا يُطِيعُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ لَا يُطِيعُهُمَا أَصْلًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمَا مُحَالُ الْحُصُولِ، فَإِذَا لَمْ يُشْرِكْ تَقْلِيدًا وَيَسْتَحِيلُ الشِّرْكُ مَعَ الْعِلْمِ، فَالشِّرْكُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ قَطُّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي عَاقِبَتُكُمْ وَمَآلُكُمْ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ مُخَالَطَتُكُمْ وَمُجَالَسَتُكُمْ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُجَالَسَتَهُ مَعَ وَاحِدٍ خَالِيَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَحُضُورَهُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ دَائِمٌ غير منقطع لا يترك مراضي مَنْ تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَتُهُ لِرِضَا مَنْ يَتْرُكُهُ فِي زَمَانٍ آخَرَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُنَبِّئُكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَا تَظُنُّوا أَنِّي غَائِبٌ عَنْكُمْ وَآبَاؤُكُمْ حَاضِرُونَ فَتُوَافِقُونَ الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ اعْتِمَادًا عَلَى غَيْبَتِي وَعَدَمِ عِلْمِي بِمُخَالَفَتِكُمْ إِيَّايَ فَإِنِّي حَاضِرٌ مَعَكُمْ أَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا أَنْسَى فَأُنَبِّئُكُمْ بِجَمِيعِهِ. ثم قال تعالى:
[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٩]]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً أُخْرَى؟ نَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ قَسَمَيْنِ مُهْتَدِيًا وَضَالًّا بِقَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ
[الْعَنْكَبُوتِ: ٣] وَذَكَرَ حَالَ الضَّالِّ مُجْمَلًا وَحَالَ الْمُهْتَدِي مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ ذَكَرَ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ هَادِيًا وَمُضِلًّا فَقَوْلُهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت:
٨] يَقْتَضِي أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِمَا وَقَوْلُهُ: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بَيَانُ إِضْلَالِهِمَا وَقَوْلُهُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً لِبَيَانِ حَالِ الْمُهْتَدِي، وَمَرَّةً أُخْرَى لِبَيَانِ حَالِ الْهَادِي وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا:
لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَقَالَ ثَانِيًا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ وَالصَّالِحُونَ هُمُ الْهُدَاةُ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَلِهَذَا قَالَ كثير من الأنبياء أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: ١٠١] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّالِحَ بَاقٍ وَالصَّالِحُونَ بَاقُونَ وَبَقَاؤُهُمْ لَيْسَ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِأَعْمَالِهِمُ الباقية