للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَغْلَبِ وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً [سَبَأٍ: ٢٠] وَالْعَجَبُ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فَقَالَ الْحَقُّ مَا يُطَابِقُ ذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سَبَأٍ: ١٣] وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ لِلنَّفْسِ تِسْعَ عَشْرَةَ قُوَّةً وَكُلُّهَا تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَالطَّيِّبَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ فَخَمْسَةٌ مِنْهَا هِيَ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَخَمْسَةٌ أُخْرَى هِيَ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ وَاثْنَانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ وَسَبْعَةٌ هِيَ الْقُوَى الْكَامِنَةُ وَهِيَ الْجَاذِبَةُ وَالْمَاسِكَةُ وَالْهَاضِمَةُ وَالدَّافِعَةُ وَالْغَاذِيَةُ وَالنَّامِيَةُ وَالْمُوَلِّدَةُ فَمَجْمُوعُهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَهِيَ بِأَسْرِهَا تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى عَالَمِ الْجِسْمِ وَتُرَغِّبُهَا فِي طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي تَدْعُو النَّفْسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِيلَاءَ تِسْعَ عَشْرَةَ قُوَّةً أَكْمَلُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُوَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا سِيَّمَا وَتِلْكَ الْقُوَى التِّسْعَةَ عَشَرَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ قَوِيَّةً وَيَكُونُ الْعَقْلُ ضَعِيفًا جِدًّا وَهِيَ بَعْدَ قُوَّتِهَا يَعْسُرُ جَعْلُهَا ضَعِيفَةً مَرْجُوحَةً فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ يَكُونُونَ طَالِبِينَ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ والله اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨]]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)

اعْلَمْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا وَعَدَ بِالْإِفْسَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الزَّجْرِ وَالْإِهَانَةِ فَقَالَ: اخْرُجْ مِنْها مِنَ الجنة او من السماء مَذْؤُماً قَالَ اللَّيْثَ: ذَأَمْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَذْءُومٌ أَيْ مَحْقُورٌ وَالذَّامُ الِاحْتِقَارُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: ذَأَمْتُهُ إِذَا عِبْتَهُ يَقُولُونَ فِي الْمَثَلِ لَا تَعْدَمُ الْحَسْنَاءُ ذَامًا وَقَالَ ابْنُ/ الْأَنْبَارِيِّ الْمَذْءُومُ الْمَذْمُومُ قَالَ ابن قتيبة مذؤما مَذْمُومًا بِأَبْلَغِ الذَّمِّ قَالَ أُمَيَّةُ:

وَقَالَ لِإِبْلِيسَ رب العباد ... ان اخرج دحيرا لعينا ذؤما

وَقَوْلُهُ: مَدْحُوراً الدَّحْرُ فِي اللُّغَةِ الطَّرْدُ وَالتَّبْعِيدُ يقال دحره دحرا إِذَا طَرَدَهُ وَبَعَّدَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً [الصافات: ٨ ٩] وَقَالَ أُمَيَّةُ:

وَبِإِذْنِهِ سَجَدُوا لِآدَمَ كُلُّهُمْ ... إِلَّا لَعِينًا خَاطِئًا مَدْحُورَا

وَقَوْلُهُ: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» رَوَى عِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ: لَمَنْ تَبِعَكَ بِكَسْرِ اللَّامِ بِمَعْنَى لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ هَذَا الْوَعِيدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَقِيلَ: إِنَّ لَأَمْلَأَنَّ فِي مَحَلِّ الِابْتِدَاءِ ولَمَنْ تَبِعَكَ خَبَرُهُ قَالَ أَبُو بَكْرِ الْأَنْبَارِيِّ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ:

لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى وَلَدِ آدَمَ لِأَنَّهُ حِينَ قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ [الأعراف: ١١] كَانَ مُخَاطِبًا لِوَلَدِ آدَمَ فَرَجَعَتِ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِمْ قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّابِعَ وَالْمَتْبُوعَ مَعْنِيَّانِ فِي أَنَّ جَهَنَّمَ تُمْلَأُ منها ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ تَبِعَهُ فَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ تَبِعَهُ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِدُخُولِ الْفَاسِقِ النَّارَ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِمَّنْ تَبِعَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ لِأَنَّ كلهم متابعون لإبليس والله اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩]]

وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ: أَحَدُهَا: إِنَّ قَوْلَهُ: اسْكُنْ أَمْرُ تَعَبُّدٍ أَوْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِطْلَاقٍ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>