التُّقْيَةُ «١» فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ بَلْ صَعَدَ الْمِنْبَرَ وَصَرَّحَ بِالْحَقِّ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مُتَابَعَةِ نَفْسِهِ وَالْمَنْعِ مِنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَطَأِ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ يَصْعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ وَخَوْفٍ وَأَنْ يَقُولَ: فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأُمَّةَ كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلَكَ فِي هَذَا الْوَعْظِ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ زَجَرَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثُمَّ دَعَاهَا ثَالِثًا إِلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ بِقَوْلِهِ: فَاتَّبِعُونِي ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الشَّرَائِعِ رَابِعًا بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا أَمْرِي وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْجَيِّدُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ إِزَالَةُ الشُّبُهَاتِ ثُمَّ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى هِيَ الْأَصْلُ ثُمَّ النُّبُوَّةُ ثُمَّ الشَّرِيعَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَخَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِأَنَّهُمْ مَتَى تَابُوا قَبِلَ اللَّه تَوْبَتَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ خَلَّصَهُمْ مِنْ آفَاتِ فِرْعَوْنَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ قَابَلُوا هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَسَنَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْجُحُودِ فَقَالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَقْبَلُ حُجَّتَكَ وَلَكِنْ نَقْبَلُ قَوْلَ/ مُوسَى وَعَادَةُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ إِلَّا ذاك.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
اعْلَمْ أَنَّ الطَّاعِنِينَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ هَارُونَ بِاتِّبَاعِهِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدِ اتَّبَعَهُ أَوْ لَمْ يتبعه، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهرون مَعْصِيَةً وَذَنْبًا لِأَنَّ مَلَامَةَ غَيْرِ الْمُجْرِمِ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ كَانَ هَارُونُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ فَاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِهِ كَانَتْ مَلَامَتُهُ إِيَّاهُ بِتَرْكِ الِاتِّبَاعِ مَعْصِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ يَلْزَمُ إِسْنَادُ الْمَعْصِيَةِ إِمَّا إِلَى مُوسَى أَوْ إِلَى هَارُونَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَارُونُ قَدْ عَصَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعِصْيَانُ مُنْكَرًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَاذِبًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا فَعَلَ هَارُونُ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ.
وثالثها: قوله: ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وَهَذَا مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْوَعْظِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ بَحَثَ عَنِ الْوَاقِعَةِ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ هَارُونَ قَدْ فَعَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَخْذُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ مَعْصِيَةً وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ تَعَرُّفِ الْحَالِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مَعْصِيَةً. ورابعها:
إن هارون عليه السلام قال: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
فَإِنْ كَانَ الْأَخْذُ بِلِحْيَتِهِ وَبِرَأْسِهِ جَائِزًا كَانَ قَوْلُ هَارُونَ لَا تَأْخُذْ مَنْعًا لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ جَائِزًا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
(١) في الأصل التنقية وهو خطأ، والتقية: المحافظة والخوف والحذر.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute