للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِالدُّعَاءِ، لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَتَكَامَلَ لِهَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ بِالتَّرْغِيبِ الشَّدِيدِ فِي الْعَمَلِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْإِخْلَالِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ التَّزْكِيَةُ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُلَخَّصُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فيه عبارات. أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يُطَهِّرُهُمْ مِنْ شِرْكِهِمْ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ جُهَّالٌ لَا حِكْمَةَ فِيهِمْ وَلَا كِتَابَ، وَأَنَّ الشِّرْكَ يُنَجِّسُهُمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يُطَهِّرُهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ حُكَمَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ جَهْلِهِمْ. وَثَانِيهَا: التَّزْكِيَةُ هِيَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَثَالِثُهَا: وَيُزَكِّيهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَسَائِرِ الْأَرْجَاسِ، كَقَوْلِهِ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ خَتَمَهَا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَالْعَزِيزُ: / هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْحَكِيمُ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا قَادِرًا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ صَوَابًا وَمُبَرَّأً عَنِ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَلَوْلَا كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ مِنْهُ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَلَا بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَلَا إِنْزَالُ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَزِيزَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِذَا أُرِيدَ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْهَضْمِ وَالذِّلَّةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَاجَاتِ لَمْ تَلْحَقْهُ ذِلَّةُ الْمُحْتَاجِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مُرَادِهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ اهْتِضَامٌ، فَهُوَ عَزِيزٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا الْحَكِيمُ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْعَلِيمِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْعِزَّةِ كَمَالُ الْعِزَّةِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَأُرِيدَ بِالْحِكْمَةِ أَفْعَالُ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكُنِ الْعَزِيزُ وَالْحَكِيمُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ بَلْ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ أَزَلِيَّةٌ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْدُقَ نَقَائِضُهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ يُعْتَبَرُ فِي تَحَقُّقِهَا صُدُورُ الْآثَارِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَصِفَاتِ الذَّاتِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ النَّظَّامُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقَبِيحِ بِأَنْ قَالَ: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ حَكِيمًا لِذَاتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقَبِيحُ مَقْدُورًا، وَالْحِكْمَةُ لِذَاتِهَا تُنَافِي فِعْلَ الْقَبِيحِ، فَالْإِلَهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فِعْلُ الْقَبِيحِ، وَمَا كان محال لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، إِنَّمَا قُلْنَا: الْإِلَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لَجَازَ تَبَدُّلُهُ بِنَقِيضِهِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ إِلَهًا مَعَ عَدَمِ الْحِكْمَةِ وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ تُنَافِي فِعْلَ السَّفَهِ فَذَلِكَ أَيْضًا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، وَأَمَّا أَنَّ مُسْتَلْزِمَ الْمُنَافِي مُنَافٍ فَمَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ، فَإِذَنِ الْإِلَهِيَّةُ لَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهَا مَعَ فِعْلِ السَّفَهِ، وَأَمَّا أَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَبَيِّنٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ سَفَهًا مِنْهُ فَزَالَ السُّؤَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٠]]

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَمْرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَجْرَاهُ عَلَى يَدِهِ مِنْ شَرَائِفِ شَرَائِعِهِ الَّتِي ابْتَلَاهُ بِهَا، وَمِنْ بِنَاءِ بَيْتِهِ وَأَمْرِهِ بِحَجِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ وَمَا جَبَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَدُعَائِهِ بِالْخَيْرِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي سَلَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّالِفَةِ عَجَّبَ النَّاسَ فَقَالَ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وَالْإِيمَانُ بِمَا أَتَى مِنْ شَرَائِعِهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَوْبِيخُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيُوصَلُونَ بِالْوَصْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ/ مِنْ نَسَبِ إِسْرَائِيلَ، وَالنَّصَارَى فَافْتِخَارُهُمْ لَيْسَ بِعِيسَى وَهُوَ مُنْتَسِبٌ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ إِلَى إِسْرَائِيلَ، وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوا كُلَّ خَيْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ فَصَارُوا لِذَلِكَ يُدْعَوْنَ