للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِمَحْضِ رَحْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْعَبْدِ فَلَيْسَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَا حَصَلَتْ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الصَّيْحَةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إِشَارَةً إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهِيَ صَيْحَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجَاثِمُ الْمُلَازِمُ لِمَكَانِهِ الَّذِي لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ يَعْنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ زَهَقَ رُوحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي مَكَانِهِ مَيِّتًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ أَحْيَاءً مُتَصَرِّفِينَ مُتَرَدِّدِينَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَإِنَّمَا قَاسَ حَالَهُمْ عَلَى ثَمُودَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود.

[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ السَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ آخِرُ الْقَصَصِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ التَّوْرَاةُ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، وَمِنَ السُّلْطَانِ الْمُبِينِ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ/ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِشَرَائِعَ وَأَحْكَامٍ وَتَكَالِيفَ وَأَيَّدْنَاهُ بِمُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةٍ وَبَيِّنَاتٍ بَاهِرَةٍ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْجِزَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:

إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [يُونُسَ: ٦٨] وَقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْمِ: ٢٣] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ لِمُوسَى على صدق نبوته. الثاني: أن يراد بالسلطان الْمُبِينُ الْعَصَا، لِأَنَّهُ أَشْهَرُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْدَلَ نَقَصَ الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْفُسِ بِإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْحُجَّةَ لِمَ سُمِّيَتْ بِالسُّلْطَانِ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لِأَنَّ صَاحِبَ الْحُجَّةِ يَقْهَرُ مَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ عِنْدَ النَّظَرِ كَمَا يَقْهَرُ السُّلْطَانُ غَيْرَهُ، فَلِهَذَا تُوصَفُ الْحُجَّةُ بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلْطَانُ هُوَ الْحُجَّةُ وَالسُّلْطَانُ سُمِّيَ سُلْطَانًا لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّه فِي أَرْضِهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّلِيطِ وَالسَّلِيطُ مَا يُضَاءُ بِهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلزَّيْتِ السَّلِيطُ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْلِيطِ، وَالْعُلَمَاءُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ كَمَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُلُوكُ سَلَاطِينُ بِسَبَبِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ، إِلَّا أَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ سَلْطَنَةِ الْمُلُوكِ، لِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالْعَزْلَ وَسَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَقْبَلُهُمَا وَلِأَنَّ سَلْطَنَةَ الْمُلُوكِ تَابِعَةٌ لِسَلْطَنَةِ الْعُلَمَاءِ وَسَلْطَنَةَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلْطَنَةُ الْمُلُوكِ مِنْ جِنْسِ سَلْطَنَةِ الْفَرَاعِنَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَمَلْتُمُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ وَالسُّلْطَانَ أَيْضًا عَلَى الدَّلَائِلِ وَالْمُبِينُ أَيْضًا مَعْنَاهُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلظُّهُورِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ؟

قُلْنَا: الْآيَاتُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي تُفِيدُ الظَّنَّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُفِيدُ الْيَقِينَ وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>