للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السُّلْطَانُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُؤَكَّدُ بِالْحِسِّ، وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالْحِسِّ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ الَّذِي تَأَكَّدَ بِالْحِسِّ فَهُوَ السُّلْطَانُ الْمُبِينُ، وَلَمَّا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا لَا جَرَمَ وَصَفَهَا اللَّه بِأَنَّهَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ. ثُمَّ قَالَ: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يَعْنِي وَأَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ إلى فرعون وملائه، أَيْ جَمَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ إِيَّاهُمْ بِالْكُفْرِ بِمُوسَى وَمُعْجِزَاتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ الطَّرِيقَ وَالشَّأْنَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ بِمُرْشِدٍ إِلَى خَيْرٍ، وقيل رشيد أي ذي رُشْدٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ بُعْدَ طَرِيقِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرُّشْدِ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا نَافِيًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَكَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ لِلْعَالَمِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ سُلْطَانِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِ رِعَايَةً/ لِمَصْلَحَةِ الْعَالَمِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِي عِبَادَةِ اللَّه وَمَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا كَانَ هُوَ نَافِيًا لِهَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَانَ خَالِيًا عَنِ الرُّشْدِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ صِفَتَهُ وَصِفَةَ قَوْمِهِ فَقَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يُقَالُ: قَدَمَ فُلَانٌ فُلَانًا بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ قَادِمَةُ الرَّجُلِ كَمَا يُقَالُ قَدَمَهُ بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ.

وَالْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قُدْوَةً لِقَوْمِهِ فِي الضَّلَالِ حَالَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ مُقَدَّمُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ، أَوْ يُقَالُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْمَهُ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ وَأَغْرَقَهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ وَيُحْرِقُهُمْ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ وَمَا أَمْرُهُ بِصَالِحٍ حَمِيدِ الْعَاقِبَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ، وَإِيضَاحًا لَهُ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ أَمْرُهُ رَشِيدًا مَعَ أَنَّ عَاقِبَتَهُ هَكَذَا.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَيُورِدُهُمُ النَّارَ؟ بَلْ قَالَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ بِلَفْظِ الْمَاضِي.

قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَلَا سَبِيلَ أَلْبَتَّةَ إِلَى دَفْعِهِ، فَإِذَا عُبِّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي دَلَّ عَلَى غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ «النَّارِ» مُؤَنَّثٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَبِئْسَتِ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ «الْوِرْدِ» مُذَكَّرٌ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ جَائِزَيْنِ كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، وَنَعِمَتِ الْمَنْزِلُ دَارُكَ، فَمَنْ ذَكَّرَ غَلَّبَ الْمَنْزِلَ وَمَنْ أَنَّثَ بَنَى عَلَى تَأْنِيثِ الدَّارِ هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: الْوِرْدُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوُرُودِ فَيَكُونُ مَصْدَرًا وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى:

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مَرْيَمَ: ٨٦] وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ كَالْمَاءِ الَّذِي يُورَدُ عَلَيْهِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ الَّذِي حَصَلَ وُرُودُهُ. فَشَبَّهَ اللَّه تَعَالَى فِرْعَوْنَ بِمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ إِلَى الْمَاءِ وَشَبَّهَ أَتْبَاعَهُ بِالْوَارِدِينَ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ بِئْسَ الْوِرْدُ الَّذِي يُورَدُونَهُ النَّارُ، لِأَنَّ الْوِرْدَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَسْكِينِ الْعَطَشِ وَتَبْرِيدِ الْأَكْبَادِ، وَالنَّارُ ضِدُّهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّعْنَ مِنَ اللَّه وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُلْتَصِقٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [الْقَصَصِ: ٤٢] .

<<  <  ج: ص:  >  >>