قَالَتْ «كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْبَاطِلَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمْ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ/ الْكُفَّارَ لَوْ مَلَكُوا كُلَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَلَكُوا مِثْلَهُ مَعَهُ لَجَعَلُوا الْكُلَّ فِدْيَةً لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أَيْ ظَهَرَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِقَابِ لَمْ تَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَكَمَا
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صِفَةِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خطر عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ»
فَكَذَلِكَ فِي الْعِقَابِ حَصَلَ مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَعْنَاهُ ظَهَرَتْ لَهُمْ آثَارُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا أَيْ ظَهَرَتْ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِقَابِ آثَارُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا. ثُمَّ قَالَ: وَحاقَ بِهِمْ من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون بِهِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى عِظَمِ عقابهم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ طَرِيقَةٍ أُخْرَى مِنْ طَرَائِقِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ يَفْزَعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَرَوْنَ أَنَّ دَفْعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَوَّلَهُمُ النِّعْمَةَ، وَهِيَ إِمَّا السَّعَةُ فِي الْمَالِ أَوِ الْعَافِيَةُ فِي النَّفْسِ، زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِكَسْبِهِ وَبِسَبَبِ جُهْدِهِ وَجِدِّهِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا قَالَ إِنَّمَا حَصَلَ بِكَسْبِي، وَإِنْ كَانَ صِحَّةً قَالَ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعِلَاجِ الْفُلَانِيِّ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ أَضَافَ الْكُلَّ/ إِلَى اللَّهِ وَفِي حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ قَطَعَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى كَسْبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ قَبِيحٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ بِلَفْظَةٍ وَجِيزَةٍ فَصِيحَةٍ، فَقَالَ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يَعْنِي النِّعْمَةَ الَّتِي خَوَّلَهَا هَذَا الْكَافِرَ فِتْنَةً، لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ، وَعِنْدَ فَوَاتِهَا يَجِبُ الصَّبْرُ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فِتْنَةٌ مِنْ حَيْثُ يُخْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ مَنْ أُوتِيَ النِّعْمَةَ، كَمَا يُقَالُ فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ، إِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى النَّارِ لِتَعْرِفَ خُلَاصَتَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا التَّخْوِيلَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الِاخْتِبَارِ.
وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثٌ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا السَّبَبُ فِي عَطْفِ هذه الآية بالفاء هاهنا، وَعَطْفِ مِثْلِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْوَاوِ؟