أَكْلِهَا مِنْهُ، قَالُوا: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ حَلَالًا، قَالُوا وَإِنْ أَكَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِمْسَاكِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّيْدَ وَلَا يَتْرُكَهُ حَتَّى يَذْهَبَ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: سَمِّ اللَّه إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ في قوله عَلَيْهِ عائد إلى ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أَيْ سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا أَمْسَكْنَ، يَعْنِي سَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ، يَعْنِي وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَى الْأَكْلِ.
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «سَمِّ اللَّه وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَإِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ النَّدْبَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّهِ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢١] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ وَاحْذَرُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه فِي تَحْلِيلِ مَا أَحَلَّهُ وَتَحْرِيمِ ما حرمه.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥]]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَكَذَلِكَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِعَادَةِ رِعَايَةُ هَذِهِ النُّكْتَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ هاهنا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الذَّبَائِحُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ سُنَّ فِيهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ،
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَقَالَ: لَيْسُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْهَا إِلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ،
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَبْزُ وَالْفَاكِهَةُ وَمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الذَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ