للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُوَ بِنَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى الْحَشْرِ، بَلْ فِيهِ أَمَارَاتٌ مُفِيدَةٌ لِلْجَزْمِ بِالْحَشْرِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا هُوَ مَفْهُومٌ بِقَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ، فَهُوَ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ وَلِكَلَامِهِ صِفَةُ الصِّدْقِ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ والثاني: بَلْ عَجِبُوا [ق: ٢] يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ مُضْرَبٌ عَنْهُ فَمَا ذَلِكَ؟

نَقُولُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَوَافَقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَنَزِيدُهُ وُضُوحًا، فَنَقُولُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ: فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِنَّكَ لَتُنْذِرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ وَإِنَّهُمْ شَكُّوا فِيهِ فأضرب عنه.

[[سورة ق (٥٠) : آية ٢]]

بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)

[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ] يَعْنِي لَمْ يَقْتَنِعُوا بِالشَّكِّ فِي صِدْقِ الْأَمْرِ وَطَرْحِهِ بِالتَّرْكِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ، بَلْ جَزَمُوا بِخِلَافِهِ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الِاخْتِصَارِ الْعَظِيمِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ حَذَفَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَالْمُضْرَبَ عَنْهُ، وَأَتَى بِأَمْرٍ لَا يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ الْعَظِيمِ وَلَا يُفْهَمُ مَعَ الْفِكْرِ إِلَّا بِالتَّوْفِيقِ الْعَزِيزِ؟ فَنَقُولُ إِنَّمَا حُذِفَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّرْكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُفْهَمُ مِنْهُ ظُهُورٌ لَا يُفْهَمُ مِنَ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ فِي مَجْلِسٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ عَظَّمَهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ لَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ يَكُونُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى تَرْكِ الذِّكْرِ دَالًّا عَلَى عَظَمَتِهِ فَوْقَ مَا يَسْتَفِيدُ صَاحِبُهُ بِذِكْرِهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِبَيَانِ رِسَالَتِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَمَّا حَذْفُ الْمُضْرَبِ عَنْهُ، فَلِأَنَّ الْمُضْرَبَ عَنْهُ إِذَا ذُكِرَ وَأُضْرِبَ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ تَفَاوُتٌ مَا، فَإِذَا عَظُمَ التَّفَاوُتُ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُمَا مَعَ الْإِضْرَابِ، مِثَالُهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ/ الْوَزِيرُ يُعَظِّمُ فُلَانًا بَلِ الْمَلِكُ يُعَظِّمُهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ الْبَوَّابُ يُعَظِّمُ فُلَانًا بَلِ الْمَلِكُ يُعَظِّمُهُ لِكَوْنِ الْبَوْنِ بَيْنَهُمَا بَعِيدًا، إِذِ الْإِضْرَابُ لِلتَّدَرُّجِ، فَإِذَا تَرَكَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُضْرَبَ عَنْهُ صَرِيحًا وَأَتَى بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَجْعَلُ الثَّانِيَ: تَفَاوُتًا عَظِيمًا مِثْلَ مَا يكون ومما لا يذكر، وهاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّكَّ بَعْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ بَعِيدٌ لَكِنَّ الْقَطْعَ بِخِلَافِهِ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْبُعْدِ.

الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعَ الْفِعْلِ يَكُونُ بِمَثَابَةِ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ، تَقُولُ أُمِرْتُ بِأَنْ أَقُومَ وَأُمِرْتُ بِالْقِيَامِ، وَتَقُولُ مَا كَانَ جَوَابُهُ إِلَّا أَنْ قَالَ وَمَا كَانَ جَوَابُهُ إِلَّا قَوْلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَصْدَرِ حَيْثُ جَازَ أَنْ يُقَالَ أُمِرْتُ أَنْ أَقُومَ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْإِلْصَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أُمِرْتُ الْقِيَامَ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْبَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا أَيْ عَجِبُوا مِنْ مَجِيئِهِ، نَقُولُ أَنْ جاءَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى قَائِمًا مَقَامَ الْمَصْدَرِ لَكِنَّهُ فِي الصُّورَةِ فِعْلٌ وَحَرْفٌ، وَحُرُوفُ التَّعْدِيَةِ كُلُّهَا حُرُوفٌ جَارَّةٌ وَالْجَارُّ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَجُوزَ عَدَمُ الدُّخُولِ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ وَلَا يَجُوزُ عجبوا مَجِيئُهُمْ لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ إِدْخَالِ الْحُرُوفِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا كَالْمُقَرِّرِ لِتَعَجُّبِهِمْ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا لِإِبْطَالِ تَعَجُّبِهِمْ، أَمَّا التَّقْرِيرُ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: ٢٤] وقالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: ١٥] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ اخْتِصَاصُكُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ مَعَ اشْتِرَاكِنَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاللَّوَازِمِ وَأَمَّا الْإِبْطَالُ فَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَيُرَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ مَا عَجَزَ عَنْهُ كُلُّهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا هَذَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ جِنْسِنَا، فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاءَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>