للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِتَرْقِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنَاتِ وَرِضَاهُمْ بِمَا جَرَى مِنَ الكف بعد الظفر.

[[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٦]]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)

إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ يَقَعُ فِيهِ وَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ ظَرْفٌ فَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَذْكُورٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَفْهُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ مَذْكُورٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَدُّوكُمْ [الفتح: ٢٥] أَيْ وَصَدُّوكُمْ حِينَ جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ [الفتح: ٢٥] أَيْ لَعَذَّبْنَاهُمْ حِينَ جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَالثَّانِي: أَقْرَبُ لِقُرْبِهِ لَفْظًا وَشَدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ مَعْنًى لِأَنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ لَا يَتْرُكُونَ الِاجْتِهَادَ فِي الْجِهَادِ وَاللَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَذِّبُونَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا أَوْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: حَفِظَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَطَئُوهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَثَانِيهَا: أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْإِحْسَانِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَالْعَامِلُ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ، أَيْ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ، كَمَا تَقُولُ أَتَذْكُرُ إِذْ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ أَتَذْكُرُ وَقْتَ قِيَامِهِ/ كَمَا تَقُولُ أَتَذْكُرُ زَيْدًا، وعلى هذا يكون الظرف للفعل الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَامِلًا فِيهِ، وَفِيهِ. لَطَائِفُ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ: الْأُولَى: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَانَ غَايَةَ الْبَوْنِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا: جَعَلَ مَا لِلْكَافِرِينَ بِجَعْلِهِمْ فَقَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَعَلَ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَعْلِ اللَّهِ، فَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيْنَ الْفَاعِلَيْنِ مَا لَا يَخْفَى ثَانِيهَا: جَعَلَ لِلْكَافِرِينَ الْحَمِيَّةَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةَ وَبَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ تَفَاوُتٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ثَالِثُهَا: أَضَافَ الْحَمِيَّةَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَضَافَ السَّكِينَةَ إِلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ: حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ: سَكِينَتَهُ، وَبَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ مَا لَا يُذْكَرُ الثَّانِيَةُ: زَادَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا بَعْدَ حُصُولِ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِعْلُهُمْ بِفِعْلِ اللَّهِ وَالْحَمِيَّةُ بِالسَّكِينَةِ وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَثَلَاثُ لَطَائِفَ الْأُولَى: قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ (جَعَلَ) وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ (أَنْزَلَ) وَلَمْ يَقُلْ خَلَقَ وَلَا جَعَلَ سَكِينَتَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَمِيَّةَ كَانَتْ مَجْعُولَةً فِي الْحَالِ فِي الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى، وَأَمَّا السَّكِينَةُ فَكَانَتْ كَالْمَحْفُوظَةِ فِي خِزَانَةِ الرَّحْمَةِ مُعَدَّةً لِعِبَادِهِ فَأَنْزَلَهَا الثَّانِيَةُ: قَالَ الْحَمِيَّةَ ثُمَّ أَضَافَهَا بِقَوْلِهِ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْحَمِيَّةَ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ تَزْدَادُ قُبْحًا، وَلِلَحَمِيَّةِ فِي الْقُبْحِ دَرَجَةٌ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهَا قُبْحُ الْقَبَائِحِ كَالْمُضَافِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا السَّكِينَةُ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى اللَّهِ فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لَا يَبْقَى معه لحسن اعتبار، فقال سَكِينَتَهُ اكتفاه بِحُسْنِ الْإِضَافَةِ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ فَأَنْزَلَ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْمُقَابَلَةِ تَقُولُ أَكْرَمَنِي فَأَكْرَمْتُهُ لِلْمُجَازَاةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَلَوْ قُلْتَ أَكْرَمَنِي وَأَكْرَمْتُهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ اشْتِدَادِ غَضَبِ أَحَدِ الْعَدُوَّيْنِ فَالْعَدُوُّ الْآخَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا أَوْ قَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا يَنْهَزِمُ وَيَنْقَهِرُ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فَيُورِثُ غَضَبُهُ فِيهِ غَضَبًا، وَهَذَا سَبَبُ قِيَامِ الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ فَقَالَ فِي نَفْسِ الْحَرَكَةِ عِنْدَ حَرَكَتِهِمْ مَا أَقْدَمْنَا وَمَا انْهَزَمْنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ تَعَلُّقُ الْإِنْزَالِ بِالْفَاءِ عَلَى تَرْتِيبِهِ عَلَى شَيْءٍ، نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ كَأَنَّهُ قَالَ أَحْسَنَ اللَّهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَوْلُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>