للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنِعُوا مِنْ ثلاثة سموات، فَلَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منعوا من السموات كُلِّهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ رُمِيَ بِشِهَابٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة (إلا) هاهنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَا يُخْرِجُ السَّمَاءَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ الْقُرْبَ مِنْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ (مَنِ) نَصْبٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. قَالَ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مِمَّنْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يُرِيدُ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَارِدَ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَعْلُو فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيَحْرِقُهُ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحِيلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النَّاسَ فِي الْبَرَارِي. وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قصة بلعم بن باعورا فِي قَوْلِهِ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الْأَعْرَافِ: ١٧٥] مَعْنَاهُ لَحِقَهُ، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شِهَابًا، وَالسِّنَانُ شِهَابًا لِأَجْلِ أَنَّهُمَا لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْبَرِيقِ يُشْبِهَانِ النَّارَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَبْحَاثًا دَقِيقَةً ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الملك وفي سورة الجن، ونذكر منها هاهنا إِشْكَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا جَوَّزْتُمْ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَصْعَدَ الشَّيْطَانُ إلى السموات وَيَخْتَلِطَ بِالْمَلَائِكَةِ وَيَسْمَعَ أَخْبَارَ الْغُيُوبِ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهَا تَنْزِلُ وَتُلْقِي تِلْكَ الْغُيُوبَ عَلَى الْكَهَنَةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا لِأَنَّ كُلَّ غَيْبٍ يُخْبِرُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ، لَا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْعَجْزُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَالْقَطْعُ بِهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْمُعْجِزِ، وَكَوْنُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزًا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ إِبْطَالِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ مُحَالٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا نُثْبِتُ كَوْنُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ رَسُولًا بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ نَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْجَزَ الشَّيَاطِينَ عَنْ تَلَقُّفِ الْغَيْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْإِخْبَارُ عن الغيوب معجز، وبهذا الطريق يندفع الدور. والله أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٩ الى ٢٠]

وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ الدَّلَائِلَ السَّمَاوِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْأَرْضِيَّةِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:

النوع الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُمْتَدًّا فِي الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالثُّخْنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَةِ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمَدُّدُ جِسْمِ الْأَرْضِ مُخْتَصًّا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّ الِازْدِيَادَ عَلَيْهِ مَعْقُولٌ، وَالِانْتِقَاصَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْقُولٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ التَّمَدُّدِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُقَدَّرِ مَعَ جَوَازِ حُصُولِ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ اخْتِصَاصًا بِأَمْرٍ جَائِزٍ وَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>