كَانَ الْإِغْنَاءُ عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بِفِعْلِهِمْ كَمَا قَالَ قَارُونُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [الْقَصَصِ: ٧٨] وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النَّجْمِ: ٤٩] لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ رَبُّ مُحَمَّدٍ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى فَأَكَّدَ فِي مَوَاضِعِ اسْتِبْعَادِهِمُ النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِسْنَادُ وَلَمْ يُؤَكِّدْهُ فِي غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى اسْمَانِ هُمَا صِفَةٌ أَوِ اسْمَانِ لَيْسَا بِصِفَةٍ؟ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الثَّانِي وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ صِفَاتٌ، فَالذَّكَرُ كَالْحَسَنِ وَالْعَزَبِ وَالْأُنْثَى كَالْحُبْلَى وَالْكُبْرَى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْحُبْلَى فِي رَأْيٍ لِأَنَّهَا حِيَالُهَا أُنْشِئَتْ لَا كَالْكُبْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْكُبْرَى فِي رَأْيٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ أَمْرٌ كَالْعَالِمِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ لَهُ عِلْمٌ وَالْمُتَحَرِّكُ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ حَرَكَةٌ بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ أَمْرٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَالذَّكَرُ اسْمٌ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ أَمْرٌ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالشَّجَرِ، يُقَالُ جَاءَنِي شَخْصٌ ذَكَرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ ذَكَرٌ، وَلَا يُقَالُ جِسْمٌ شَجَرٌ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لَهُ فِعْلٌ، وَالصِّفَةُ فِي الْغَالِبِ لَهُ فِعْلٌ كَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ/ وَالْعَزَبِ وَالْكُبْرَى وَالْحُبْلَى، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَتَبَدَّلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَا يُصَاغُ لَهَا أَفْعَالٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لِمَا يُتَوَقَّعُ لَهُ تَجَدُّدٌ فِي صُورَةِ الْغَالِبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْإِضَافِيَّاتِ أَفْعَالٌ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَّذِي يَتَبَدَّلُ، وَوُجِدَ لِلْإِضَافِيَّاتِ الْمُتَبَدِّلَةِ أَفْعَالٌ يُقَالُ: وَاخَاهُ وَتَبَنَّاهُ لَمَّا لَمْ يكن مثبتا بتكلف فقبل التبدل.
[[سورة النجم (٥٣) : آية ٤٦]]
مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تُمْنى مِنْ أَمْنَى الْمَنِيَّ إِذَا نَزَلَ أَوْ مَنِيَ يَمْنَى إِذَا قَدَرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَنَاسِبُ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةً وَطِبَاعًا مُتَبَايِنَةً وَخَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهَا أَعْجَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ كَمَا لَمْ يَقْدِرْ أحد على أن يدعي خلق السموات، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: ٨٧] كَمَا قَالَ:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] . ثم قال تعالى:
[[سورة النجم (٥٣) : آية ٤٧]]
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
وَهِيَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بَعْدَ طُولِ التَّفَكُّرِ وَالسُّؤَالِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْهِدَايَةَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ الشَّرِيفَةَ لَا الْأَمَّارَةَ تُخَالِطُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ الْمُظْلِمَةَ، وَبِهَا كَرَّمَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] غَيْرَ خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً، وَالْمُضْغَةِ عِظَامًا، وَبِهَذَا الْخَلْقِ الْآخَرِ تَمَيَّزَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَشَارَكَ الْمَلَكَ فِي الْإِدْرَاكَاتِ فكما قال هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بَعْدَ خَلْقِ النُّطْفَةِ قَالَ هَاهُنَا: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى فَجَعَلَ نَفْخَ الرُّوحِ نَشْأَةً أُخْرَى كَمَا جَعَلَهُ هُنَالِكَ إِنْشَاءً آخَرَ، وَالَّذِي أَوْجَبَ الْقَوْلَ بِهَذَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ٤٢]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute