للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ خَلْقُ الْجَانِّ مِنَ النَّارِ؟

قُلْنَا: هَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْحَيَاةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ فِي الْجِسْمِ الْحَارِّ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهَا قَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ فِيهِ فَنَنْقُضُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ بَلِ الْمُعْتَمَدُ فِي نفي الحياة عن الكواكب الإجماع.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)

قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلَّ بِذِكْرِهِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَاقِعَتَهُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَأَطَاعُوهُ إِلَّا إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَبَى وَتَمَرَّدَ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: مَا تَفْسِيرُ كَوْنِهِ بَشَرًا. فَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ جِسْمًا كَثِيفًا يُبَاشِرُ وَيُلَاقِي وَالْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ لَا يُبَاشِرُونَ لِلُطْفِ أَجْسَامِهِمْ عَنْ أَجْسَامِ الْبَشَرِ، والبشرة ظاهرة الْجِلْدِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَلْصَالًا مَنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَأما قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ فَفِيهِ/ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا سَوَّيْتُ شَكْلَهُ بِالصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَالثَّانِي: فَإِذَا سَوَّيْتُ أَجْزَاءَ بَدَنِهِ بِاعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ وَتَنَاسُبِ الْأَمْشَاجِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَانِ: ٢] .

وَأما قوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّفْخَ إِجْرَاءُ الرِّيحِ فِي تَجَاوِيفِ جِسْمٍ آخَرَ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الرُّوحَ هِيَ الرِّيحُ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ وَصْفُهَا بِالنَّفْخِ إِلَّا أَنَّ البحث الْكَامِلَ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُوحَ آدَمَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا. وَقَوْلُهُ: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فِيهِ مَبَاحِثُ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كَانَ لآدم في الحقيقة أو كان آدم كَالْقِبْلَةِ لِذَلِكَ السُّجُودِ، وَهَذَا البحث قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ، مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:

إِنَّ أَكَابِرَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: ٢٠٦]

<<  <  ج: ص:  >  >>