قَادِرًا عَلَى الْبِعْثَةِ وَجَبَ فِي كَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَبْعَثَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْإِشَارَةُ إِلَى الدَّلَالَةِ التي قررناها.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ هُوَ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وَاوُ عَطْفٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: ١٢] كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى نِعَمَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ فَخَالَفُوا فِي الْقَوْلِ فِي الْمِيثَاقِ، وَخَالَفُوهُ فِي مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ فِي أُمَّةٍ مَا بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ/ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَيْضًا كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بِالِاتِّفَاقِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَوْلَادُ يَعْقُوبَ أَيْضًا كَانُوا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَنْبِيَاءَ، واللَّه تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَهَذَا الشَّرَفُ حَصَلَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِالَّذِينِ كَانُوا حَاضِرِينَ مَعَ مُوسَى، وَبِالَّذِينِ أَخْبَرَ اللَّه مُوسَى أَنَّهُ سَيَبْعَثُهُمْ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي وَجَعَلَكُمْ أَحْرَارًا تَمْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ مَا كُنْتُمْ فِي أَيْدِي الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا، وَلَا يَغْلِبُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ غَالِبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَنَبِيًّا كَانَ مَلِكًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَمْرَ أُمَّتِهِ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ، وَكَانَ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَلِكًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: ٥٤] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ مُلُوكٌ وَعُظَمَاءُ، وَقَدْ يُقَالُ فِيمَنْ حَصَلَ فِيهِمْ مُلُوكٌ: أَنْتُمْ مُلُوكٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فِي مَصَالِحِهِ إِلَى أَحَدٍ فَهُوَ مَلِكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلِكُ مَنْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاسِعَةً وَفِيهَا مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَخَدَمٌ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَلِكًا.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ آتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِأَنْوَاعٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْإِكْرَامِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الْبَحْرَ لَهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمُ الْمِيَاهَ الْعَذْبَةَ مِنَ الْحَجَرِ، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظَلَّ فَوْقَهُمُ الْغَمَامَ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لِقَوْمٍ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ كَمَا جُمِعَ لَهُمْ، وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَانُوا هُمُ الْعُلَمَاءُ باللَّه وَهُمْ أَحْبَابُ اللَّه وَأَنْصَارُ دِينِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَشَرَحَهَا لَهُمْ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بمجاهدة العدو فقال:
[[سورة المائدة (٥) : آية ٢١]]
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
فِيهِ مَسَائِلُ: