للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدنة فيها جمل لأبي فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ»

وَالوجه الثَّانِي: فِي تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّقَرُّبِ بِهَا وَإِهْدَائِهَا إِلَى بَيْتِهِ الْمُعَظَّمِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْتَفَلَ بِهِ وَيُتَسَارَعَ فِيهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي إن تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِلَّا بِتَقْدِيرِهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَاجِعٍ مِنَ الْجَزَاءِ إِلَى مَنِ ارْتَبَطَ بِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الْقُلُوبُ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يُظْهِرُ التَّقْوَى مِنْ نَفْسِهِ.

وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَلْبُهُ خَالِيًا عَنْهَا لَا جَرَمَ لَا يَكُونُ مُجِدًّا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، أَمَّا الْمُخْلِصُ الَّذِي تَكُونُ التَّقْوَى مُتَمَكِّنَةً فِي قَلْبِهِ/ فَإِنَّهُ يُبَالِغُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي تَعْظِيمِ ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟ فالجواب قوله تعالى:

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]

لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى مَا أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَنْ تُحْمَلَ الشَّعَائِرُ عَلَى الْهَدْيِ الَّذِي فِيهِ مَنَافِعُ إِلَى وَقْتِ النَّحْرِ، وَمَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ يَقُولُ لَكُمْ فِيهَا أَيْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَنَافِعُ مُفَسَّرَةٌ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْأَوْبَارِ وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهَذِهِ الْبَهَائِمِ إِلَى أَنْ تُسَمُّوهَا ضَحِيَّةً وَهَدْيًا فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهَا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ آخَرُونَ لَكُمْ فِيها أَيْ فِي الْبُدْنِ مَنافِعُ مَعَ تَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا وَأَنْ تَشْرَبُوا أَلْبَانَهَا إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أَيْ فِي الشَّعَائِرِ وَلَا تُسَمَّى شَعَائِرَ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى هَدْيًا

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَرَّ بِرَجُلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وَهُوَ فِي جُهْدٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهَا هَدْيٌ فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ»

وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ارْكَبُوا الْهَدْيَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَجِدُوا ظَهْرًا»

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهَا بِأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِلرُّكُوبِ فَلَوْ كَانَ مَالِكًا لِمَنَافِعِهَا لِمِلْكِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا كَمَنَافِعِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهَا، وَيُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَكَذَا هَاهُنَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَالْمَعْنَى أَنَّ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعَ كَثِيرَةً فِي دُنْيَاكُمْ وَدِينِكُمْ وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ وُجُوبُ نَحْرِهَا أَوْ وَقْتُ وُجُوبِ نَحْرِهَا مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْبَيْتِ، كَقَوْلِهِ:

هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: ٩٥] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: مَحِلُّها يَعْنِي حَيْثُ يَحِلُّ نَحْرُهَا، وَأَمَّا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَةِ: ٢٨] أَيِ الْحَرَمَ كُلَّهُ فَالْمَنْحَرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَكَّةَ، وَلَكِنَّهَا تَنَزَّهَتْ عَنِ الدِّمَاءِ إِلَى مِنًى وَمِنًى مِنْ مَكَّةَ،

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>