وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢١] ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَثَّ عَلَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَحَمِدَ مَنْ يُعَظِّمُهَا أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ وَقَوْلِ الزُّورِ. لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّه تَعَالَى وَصِدْقَ الْقَوْلِ أَعْظَمُ الْخَيْرَاتِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الشِّرْكَ وَقَوْلَ الزُّورِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الشِّرْكَ مِنْ بَابِ الزُّورِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ زَاعِمٌ أَنَّ الْوَثَنَ تَحِقُّ لَهُ الْعِبَادَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الزُّورِ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كُلَّهُ، وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ شَيْئًا لِتَمَادِيهِ فِي الْقُبْحِ وَالسَّمَاجَةِ، وَمَا ظَنُّكَ بِشَيْءٍ مِنْ قَبِيلِهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَسَمَّى الْأَوْثَانَ رِجْسًا لَا لِلنَّجَاسَةِ، لَكِنْ لِأَنَّ وُجُوبَ تَجَنُّبِهَا أَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ تَجَنُّبِ الرِّجْسِ وَلِأَنَّ عِبَادَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِالنَّجَاسَاتِ. ثم قال الْأَصَمُّ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِي الْمُتَقَرَّبَاتِ أَنْ يَتَعَمَّدُوا سُقُوطَ الدِّمَاءِ عَلَيْهَا وَهَذَا بَعِيدٌ وَقِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ اسْتِحْقَارًا وَاسْتِخْفَافًا وَهَذَا أَقْرَبُ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَوْثانِ بَيَانٌ لِلرِّجْسِ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَقَوْلِهِ عِنْدِي عِشْرُونَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ الرِّجْسَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالزُّورُ مِنَ الزُّورِ وَالِازْوِرَارِ وَهُوَ الِانْحِرَافُ، كَمَا أَنَّ الْإِفْكَ مِنْ أَفِكَهُ إِذَا صَرَفَهُ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي قَوْلِ الزُّورِ/ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنِ افْتِرَائِهِمْ وَثَانِيهَا: شَهَادَةُ الزُّورِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ قَائِمًا وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَقَالَ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ باللَّه» وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ
وَثَالِثُهَا: الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ وَرَابِعُهَا:
قَوْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُنَفاءَ لِلَّهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَالْمَيْلُ إِلَى الْحَقِّ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ الْإِخْلَاصُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ للَّه وَحْدَهُ لَا عَلَى وَجْهِ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللَّه بِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْوِيَ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصَ فَبَيَّنَ تَعَالَى مَثَلَيْنِ لِلْكُفْرِ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِمَا فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَافِرَ ضَارٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِنْ كَانَ هَذَا تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا لَيْسَ وَرَاءَهُ هَلَاكٌ بِأَنْ صَوَّرَ حَالَهُ بِصُورَةِ حَالِ من خر من السماء فاختطفه الطَّيْرُ فَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي حَوَاصِلِهَا أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَهَالِكِ الْبَعِيدَةِ. وَإِنْ كَانَ تَشْبِيهًا مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ فِي عُلُوِّهِ بِالسَّمَاءِ، وَالَّذِي تَرَكَ الْإِيمَانَ وَأَشْرَكَ باللَّه كَالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تَتَوَزَّعُ أَفْكَارُهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يَطْرَحُهُ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ كَسْرِهِمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَصْلُهَا تَخْتَطِفُهُ وَقُرِئَ الرِّيَاحُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ مَا تَقَدَّمَ فَقَالَ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِبَادَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمَنَاسِكُ فِي الْحَجِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ الْمُرَادُ الْهَدْيُ خَاصَّةً وَالْأَصْلُ فِي الشَّعَائِرِ الْأَعْلَامُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الشَّيْءُ فَإِذَا فَسَّرْنَا الشَّعَائِرَ بِالْهَدَايَا فَتَعْظِيمُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَهَا عِظَامَ الْأَجْسَامِ حِسَانًا جِسَامًا سِمَانًا غَالِيَةَ الْأَثْمَانِ وَيَتْرُكَ الْمِكَاسَ فِي شِرَائِهَا، فَقَدْ كَانُوا يَتَغَالَوْنَ فِي ثَلَاثَةٍ وَيَكْرَهُونَ الْمِكَاسَ فِيهِنَّ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ وَالرَّقَبَةِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ أَهْدَى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا بُدْنًا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ بَلْ أَهْدِهَا» «وَأَهْدَى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم مائة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute